علاء أبو صالح

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير - فلسطين

 

 لم يكن غريباً أن ينبري البعض طاعناً أوقادحاً في فكرة الخلافة ويتخذ من الإساءات التي شابت تطبيق الإسلام عبر القرون الماضية تكئة للولوج الى بحر التشكيك والظنون، فالخلافة اليوم ليست شأناً مهملاً أو فكرة خيالية غير قابلة للتطبيق أو أحلام عصافير بل إنها تجسيد لمشروع الأمة الحضاري الذي يشغل الأوساط السياسية الدولية ويؤرقها،والذي بان للعالم بأسره لا المسلمين فحسب أن الخلافة هي من سيخرج البشرية مما تعانيه من ضنك وجور الرأسمالية وتقودها الى رحاب العدل والحياة المطمئنة في ظل الإسلام ودولته، وهي- مع دنو عودتها بدلائل واقعية لا يخطؤها إلا أعمى البصر والبصيرة أو مكابر معاند أو مغرض- تقض مضاجع قادة العالم من أمريكا وأوروبا وروسيا وتعيد لهم ذاكرة الأيام الخالية وكيف كانت جيوش المسلمين تزحف نحو أوروبا وتفتح الأمصار وتَدُكُ العروش دكّاً كما فعلت بفارس والروم والقسطنطينية، فليس غريباً أن يكون للقوى الإستعمارية التي تتخوف من عودة الخلافة من يسلق المسلمين ودعوتهم ومشروعهم النهضوي بألسنة حداد، فتاريخ الأمة الطويل يذكر هؤلاء كما يذكر غيرهم ممن تآمر على المسلمين أو خانهم أو كان عوناً لأعدائهم عليهم .
قد يقول قائل إنك بالغت وغاليت وطعنت في أقلام أو رجال رأوا في الحرية الفكرية والبحث العلمي والإختلاف في الرأي منهجاً لهم، وأردت أن تسطو عليهم بعبارات الطعن والتشكيك في النوايا فكنت مثالاً لمن لا يعرف سوى قمع الآخر أو نفيه، قد يقول قائل ذلك أو غيره متغافلاً أن من يهاجم فكرة ومشروع الخلافة من خلال حوادث تاريخية مبتورة هذا هو وصفه دون زيادة او نقصان، فهو يفتقد الى معايير النزاهة أو أسس البحث العلمي أو حتى التوصيف الحقيقي للواقع، وفي هذه المقالة الوجيزة سأسعى لبيان ذلك ومن ثم بيان حقيقة إساءات التطبيق التي حدثت من قبل بعض الخلفاء وسياقها، والتي اتخذها المغرضون سهاماً للطعن في فكرة الخلافة ونظامها المتميز الذي لم يشهد له الوجود من قبل مثيلاً .
أما فقدان الطاعنين في فكرة الخلافة لمعايير النزاهة أو أسس البحث العلمي أو التوصيف الحقيقي للواقع فللأسباب التالية :
1.    أن معظم الحوادث التاريخية التي يعتمدون عليها حوادث غير موثّقة تاريخياً تعتمد على كتب أعدّها مستشرقون كان همّهم الطعن والقدح بتاريخ المسلمين، أو على كتب لم تعتمد نهج الرواية في إثبات الحوادث وكانت مجرد كتب للقدح أو المدح لشخص الخليفة وحاشيته دون الوصف الحقيقي للمجتمع بل إن بعضها كُتِبَ في الغناء والمجون ككتاب الأغاني للأصفهاني.
2.    لقد كان ذكر المغرضين للحوادث التي ثبتت تاريخياً ذكراً مجتزءاً من صورة متكاملة للدولة والمجتمع والتي سادها العدل والحياة المطمئنة والإزدهار والتقدم في شتى مجالات الحياة، فهم قد سلطوا الأضواء على شوائب لا تمثل سوى ثغرات عبر تاريخ الخلافة الطويل وقاموا بالقياس الشمولي والتعميم المجرد على بقية جوانب الحياة، ولا يخفى مجانبة ذلك للنزاهة والموضوعية أو البحث العلمي مما يدل على أن وراء تلك الأقلام والرجال ما وراءهم من غايات تشكيكية خبيثة وأهداف أخرى ألبسوها لباس النزاهة والموضوعية والبحث العلمي وهي منهم براء .

3.    اتخذ المغرضون من الحوادث التي وقعت فيها اساءات تطبيق للإسلام سهاماً للتشكيك بقدرة الإسلام على صياغة الحياة من جديد وبقدرته على معالجة الوقائع المستجدة وتوفير العدل والطمأنينة للبشر، أي أنهم رأوا الأفراد والحكام حَكماً على الفكر والمبدأ متغافلين أن الفكر لا يبطله إلا الفكر والحجة والبرهان وأما إساءات التطبيق فهي وصمة لصاحبها لا تنسحب على المبدأ او الفكرة سيما إن كانت الفكرة تردّها وتنص على خلافها صراحة، فإمكانية التطبيق أو النجاح أو الفشل في أرض الواقع لأي فكرة أو مبدأ كان ليس دليلاً نظرياً على خطأ أو صحة المبدأ أو الفكرة، وهذا من أساسيات البحث الفكري، إلا أن هذا أيضاً لا يعني إغفال تجربة المبدأ أو الفكرة في التطبيق العملي مما يعطي مؤشراً عملياً على إمكانية تشكيل المجتمعات والأفراد والجماعات بحسب المبدأ من جديد ويعطي دروساً في كيفية تلافي الأخطاء السابقة .

4.    يتعامل المغرضون مع الوقائع الجارية والتاريخية بمكيالين، فمكيال للغرب ومدحهم له برغم فساد فكره نظرياً وعملياً ومكيال يرى في أخطاء بعض الخلفاء المروية بطرق ظنية حَكماً على الإسلام كمبدأ وما ذلك إلا لعجزهم عن مجابهة الحجة الفكرية بالحجة والبرهان بالبرهان، فتراهم لا يعتبرون إساءة حكام أمريكا أو أوروبا وفسادهم المالي والخلقي الظاهر -والمخفي أعظم- لا يرون في هذه الإساءات والفضائح مؤشراً على فساد الرأسمالية الديمقراطية المتهافتة نظرياً، بينما يرون في رواية مطعون فيها لا تقوى على الثبوت بمعايير الرواية ونقل الأخبار حَكماً على الإسلام كمبدأ، كزعم من زعم ان هارون الرشيد رحمه الله كان يقضي وقته بين الغواني وفي الرقص والمجون فهم يعتبرون هذه الرواية دليلاً على فساد فكرة الخلافة وإثباتاً "لفشل" الإسلام في التطبيق، ولكل صاحب عقل راجح أن يدرك المغالطة الفظيعة التي يتقصدها هؤلاء .

5.    إن الحوادث التي يعتمد عليها المغرضون بعد أن يتم إخضاعها لمقاييس الرواية الدقيقة التي لا يصح نقل التاريخ إلا بها واستبعاد كتب المغرضين كالمستشرقين وأضرابهم مما ذكرناه سابقاً، نجد أن عدد هذه المخالفات والاساءات قياساً مع تاريخ الأمة الممتد عبر 1400 عام لا تمثل سوى شامة سوداء في بعير أبيض مما يجعل الأقلام التي تحرص على اظهار صورة السواد لتاريخ الأمة الناصع أقلاماً مشبوهة، فلكم أن تتصوروا حجم الكوارث والمصائب والبلايا العظام التي خلفتها أمريكا على البشر والشجر والحجر حتى الهواء والماء وعمرها لم يتجاوز 300 عام بكثير، ومع ذلك يسعى بعض المغرضين الى تسليط الضوء على الإنجازات العلمية للغرب وأمريكا وتقدمها الصناعي والتكنولوجي، بينما يسلط الضوء على حادثة اغتيال أو قمع أو خطأ في أخذ البيعة -برغم خطئها– ليصف الخلافة الأموية أو العباسية أو العثمانية بأقذع الأوصاف وهي التي فتحت الدنيا ونشرت الهدى ووضعت للبشرية أسس العلم بل وفروعه، وعلماء الخلافة آنذاك لا زال سيطهم يملأ جوانب جامعات الغرب حتى يومنا هذا من الخوارزمي وابن سينا الى ابن رشد فالرازي وجابر بن حيان وغيرهم الكثير الكثير .

6.    إن الهجوم على فكرة الخلافة باستغلال حوادث تاريخية بعضها ثابت وكثير منها موضوع مفترى، لا يصنف بإعتباره بحثاً أكاديمياً أو علمياً بصورة صرفة لأنه ممتد الى عصرنا ويحمل في طياته عدواة مشروع الخلافة الذي أضحى المشروع الوحيد الذي سيخلص البشرية مما تعانيه مما يجعل هؤلاء المغرضين في صف أعداء الخلافة ومشروعها مما يجعل رأيهم أو قولهم محلاً للشبهة والظن وبعيداً كل البعد عن الموضوعية والنزاهة لأنهم باتوا  طرفاً في الخصومة ومن كان كذلك فلا تقبل شهادته على خصمه .
هذه هي حقيقة بُعد هؤلاء المغرضين عن النزاهة او الموضوعية في تناولهم بعض الحوادث التاريخية والتي شابها اساءات تطبيق للإسلام ووقع فيها أخطاء ومظالم . أما واقع هذه الأخطاء وإساءات التطبيق فهي لا تعدو أحد صنفين، الأول إساءة أو خطأ وقع من حاكم فأصاب الأمة أونظام حكمها بضرر والثاني أخطاء فردية وقعت من قبل بعض الخلفاء لم يتعد ضررها الخلفاء أنفسهم ولم يعم الأمة أو جماعة المسلمين ،

وللتأكيد على ذلك وإدراكاً منه لهذه الحقيقة القطعية وإمكانية وقوع الأخطاء حتى من قبل من ينفذون منهج السماء فقد نظر الإسلام إلى دولة الخلافة باعتبارها دولة بشرية ولم يعتبرها في أي مرحلة كانت- حتى في عهد النبوة- دولة إلهية، وهي دولة في حكامها وخلفائها قابلية الخطأ أو الإساءة أو الظلم -وهذا سلوك بشري طبيعي- لذا نجد الإسلام قد شرّع من الأحكام اللازمة لمعالجة هذه الأخطاء فأوجب محاسبة الحاكم على أفعاله وتصرفاته وشرّع أحكاماً لعزل الخليفة ولقضاء المظالم، وهذا كله يدل على حقيقة نظرة الإسلام للدولة والخليفة وانها مهما بلغت من دقة الإلتزام بالمبدأ ستبقى دولة بشرية وسيبقى حكامها بشراً فيهم قابلية الخطأ والنسيان .

أما الأخطاء التي أضرت بالأمة أو نظام حكمها فلا شك أنها قد جعلت الخلافة تنحدر من مكانتها المرموقة المميزة والتي وصفها الرسول الكريم بقوله (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) الى خلافة يتمسك خلفاؤها بالخلافة ويعضون عليها بالنواجذ كما وصفها عليه السلام (ثم تكون ملكاً عاضاً) كما أن هذه الأخطاء التي ارتكبها بعض الخلفاء أدّت الى إساءة تطبيق الإسلام في الدولة والمجتمع إلا أن هذه الإساءات لم تُخرج الدولة او المجتمع عن وصفها الإسلامي. وأبرز موضوع في هذا الصنف والذي استمر أثره من بعد الخلافة الراشدة الى هدمها هو موضوع إساءة أخذ البيعة للخليفة، فأخذ البيعة لابن الخليفة أو أخيه-برغم خطئه- لم يلغ طريقة البيعة في تنصيب الخليفة وإنما أصابها في خلل وبقيت طريقة تنصيب الخليفة هي البيعة دون سواها وإن كانت تؤخذ للأبناء أو الإخوة مما جعل البعض يسميها وراثية لكنها ليست كذلك وحالها كحال الانتخابات في يومنا هذا-مع فارق الشبه- فلو تلاعبت الدولة في صناديق الاقتراع وأنجحت شخصاً على حساب آخر فلا يسمى الشخص الناجح انه أتى بالوراثة وإن كان ابن الحاكم أو أخيه وإنما تبقى طريقة فوزه عبر الانتخابات التي وقع في تطبيقها اساءة واستغلال، فالخليفة في العهد الأموي أو العباسي او العثماني لم يكن ليكون خليفة دون بيعة الأمة له وإن كان الحاكم يذلل له الصعاب أو الرقاب، فالسلطان بصورة أو أخرى بقي للأمة دون سواها.

أما حوادث الإقتتال والاغتيالات التي وقعت عبر تاريخ الخلافة فلا شك أنها نزيرة نسبة لطول عمر الخلافة ولا يخفى على من يدرس التاريخ وجود مؤامرات وأصابع خفية كانت تستغل ضعف الدولة أحياناً للتدخل في شؤونها الداخلية سعياً لإضعافها وما ذلك إلا خوفاً منها وخوفاً من مجابهتها سواء في ساحات القتال أو المناظرة العقائدية التي لم يقوَ عليها هؤلاء في يوم من الأيام، ولكن الأمة كانت تستعيد لحمتها وتداوي جراحها وطوال تلك الأحداث لم تتتنازل الأمة أو الخلافة عن تطبيق الإسلام في شتى مجالات الحياة ولكل منصف أن يرجع الى الفقه المدّون أو ملفات الأقضية والمحاكم ليدرك أن المسلمين لم يطبقوا حكماً واحداً لم يستند الى المصادر الشرعية المعتبرة عند الفقهاء .

أما الصنف الثاني من الاساءات والأخطاء وهي الأخطاء الفردية التي وقعت من قبل بعض الخلفاء ولم يتعد ضررها الخلفاء فلا يختلف اثنان على أن تلك الأخطاء لا تؤثر على صبغة الدولة والمجتمع، مع عدم قبولها وضرورة إصلاحها أو تغيير شخص الحاكم واستبداله.

هذه بعض الإشارات القصيرة التي حاولت من خلالها ازالة اللبس عن طعونات مسّت فكرة الخلافة بغير وجه حق أو إنصاف أردت ذكرها والوقوف عليها علّها أن تكون بداية مراجعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد او أن تكون رداً على افتراءات أصرّ أصحابها التمسك بها ولو كانت مجانبة للحق والصواب . إن من واجب هؤلاء الكتاب ممن ينتمي لهذه الأمة أن يتيه على العالم بتاريخ أمته وكيف كانت بحق خير أمة أخرجت للناس في وقت كانت دول العالم تغرق في محيطات من الجهل والفساد والعبودية، وكيف عمرت الأرض وقادت مركب العلم إلى عباب التقدم، بل إن من أدرك ذلك كله وجب عليه أن يسعى لاستعادة مجد أمته الضائع وعزها المفقود لتعود -وهي المؤهلة بحق دون سواها- لقيادة البشرية من جديد فتعود الخلافة راشدةً على منهاج النبوة ثانية كما بدأت (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) . 
علاء أبو صالح/عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
28/3/2009