الربيع العربي...الخروج من المصفوفة

د. مصعب أبو عرقوب-عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 

"الشعب...يريد...اسقاط النظام"، تلك كانت البداية، وبذلك الشعار أعلنت الشعوب عن فلسفتها في الثورة، فلا تحرر من العبودية وضنك العيش إلا بإسقاط النظام، فلسفة بسيطة لكنها عميقة خرجت من رحم المعاناة والقهر والشقاء والمفارقات التي عاشتها الشعوب و أدركت من خلالها عبثية الحلول الجزئية ولمست مرارا وتكرارا تناقض أفكارها وقيمها وآمالها وطموحاتها مع النظام ووجوده، فخرجت مصرّحة بتلك الفلسفة منادية بالحل الجذري المتمثل في اسقاط النظام.

ذلك النظام الذي حبس شعوب الأمة في دول اقليمية ضيّقة شكلت كل واحدة منها مصفوفة من القوانين والعلاقات والحدود والدساتير والنظم السياسية والإقتصادية والتعليمية تضمن تبعيتها للنظام وعبوديتها للقائمين عليه، وما لم تحرر الشعوب من قوانين تلك المصفوفة فإنها لن تهدد النظام وسيبقى وإن سقط بعض رموز النظام وحراس المصفوفة ستبقى الشعوب تكابد التبعية للنظام والعبودية لقوانينه والارتهان لقراراته، فهي تعيش حبيسة للمصفوفة.

فالمصفوفة التي وضع قوانينها النظام الرأسمالي العالمي البغيض تفرض بقوانينها هيمنة وعبودية أبدية إن بقيت حاكمة في بلادنا، فالتقييد بنظمها وعلاقاتها لا ينتج إلا مزيدا من التبعية وضياع الثروات والطاقات ، فالتسيج بسياج سايكس بيكو جزء من قوانين المصفوفة ومعالمها البارزة يكرس شرذمة الأمة وتفتيت كيانها، والالتزام بالمعاهدات الدولية رقم آخر في المصفوفة يضمن ضبط عملها في حدود النظام الإستعماري، والمحافظة على كامب ديفيد وعملية "السلام" يبقي سقف الآمال ضمن قوانين المصفوفة، وارتباط الإقتصاد بالنظام الرأسمالي والبنوك والقروض الربوية والخصخصة والمساعدات الخارجية أبقى ثروات الشعوب نهبا للنظام الاستعماري وبلادنا سوقاً استهلاكية كبيرة لبضائع الغرب ومنتجاته...وضمنَ  بذلك استقرار المصفوفة لعقود؛

عقود دخلت فيها قوانين المصفوفة إلى مناهج التعليم محاولة غَرس الثقافة الغربية في عقول أبنائنا، فأصبحت رموز المصفوفة وعلاقاتها وأرقامها التي تضمن هيمنة النظام تدرس على أنها منهج حياة لارجعة فيه، فقُدّست الوطنية الضيّقة ومُجّدت الديمقراطية وأصبح فصل الدين عن الحياة تقدماً، والنظام الجمهوري تمدناً والدولة المدنية العلمانية مطلباً ..لتكتمل بذلك قوانين المصفوفة وتستحكم حلقاتها وتضيق على الشعوب؛

شعوب عريقة ذات ثقافة عميقة في النفوس، وفكر متميز لم يغادر المخلصين من أبنائها الذين حلّقوا بفكرهم  دوماً خارج أسوار المصفوفة، وعقدوا لشعوبهم المقارنات بين ما يجب أن تكون عليه وما تكابده من عيش ضمن تلك المصفوفة البغيضة، فأنتج ذلك فكراً اختمر في وجدان الأمة على مر السنين ليخرج ثورة...تنادي بالخروج على قوانين المصفوفة وإسقاط النظام برمته في بلادنا ، فكانت.... المرحلة الأولى من الربيع العربي؛

ربيع أسقط رموز النظام وحراس المصفوفة في تلك المرحلة ، إلا أن الزعماء الجدد في بلاد الربيع لم يرتقوا

إلى مستوى شعوبهم التي غرّدت خارج المصفوفة، وأصرّوا على البقاء ضمن أسوارها بانتمائهم القديم إلى تلك الفئة التي عاشت في كنف النظام وسيطرت قوانين المصفوفة على عقولها وأطروحاتها في معالجة المشاكل، فتلك النخب التي أعطت الشرعية للمصفوفة عبر تشكيلها "للمعارضة الدستورية " التي كرّست قوانين المصفوفة...وانبثقت من رحم تجلياتها لا يكمن أن تفكر إلا ضمن حدود المصفوفة، فالمعاهدات الدولية والحدود والاتفاقيات والاقتصاد الرأسمالي والديمقراطية في نظر تلك النخب مقدسات؛

مقدسات هيمنت على أداء الزعماء "الجدد" والنخب "الجديدة" في دول الربيع العربي... مما قاد الشعوب لتدرك أنها تعيش مرحلة التأكد من ضرورة الخروج من المصفوفة نهائياً، فالحلول لقضايا الأمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية تأتي في ظل الزعماء "الجدد" لدول الربيع العربي جزئية مرتبكة تبقي الشعوب حبيسة للمصفوفة القديمة التي دمّرت الشعوب ونهبت ثرواتها وأذلت أبناءها ودفعتهم للهجرة والغرق في البحار بحثاً عن لقمة العيش، وضيّعت مقدساتها، وأهدرت كرامة شعوبها بين الأمم، وهي ذاتها التي أخرجتهم يوماً مطالبين بإسقاط النظام في تحرك فاجأ تلك النخب؛

نخب وقفت حائرة عند خروج الشعوب ولم تستطع مواكبتها لأنها بقيت حبيسة المصفوفة ولا تتقن إلا لغتها، لغة الأمم المتحدة والسلام والمواثيق والنظام الدولي والمساعدات العسكرية والمعارضة والدولة المدنية والدستور الوضعي، وفي لحظة من الربيع ظنّت تلك النخب المتنفذة أنها قد استولت على "تركة الربيع"، فتقدمت -وبتلك العقلية المرتهنة للنظام الرأسمالي- لتصبح حرسا جديداً للمصفوفة القديمة!، فوقعت بذلك في ذات الخطأ الذي وقع فيه رموز النظام وحراس المصفوفة المخلوعين ، وانحازت للمصفوفة وارتبطت من جديد بالنظام العالمي الرأسمالي المستعمر فابتعدت كثيرا عن شعوبها وعن فلسفة الربيع العربي الذي خرج في وجه النظام ولأجل اسقاطه بدأ ثورته؛

ثورة ستكتشف تلك النخب وحراس المصفوفة الجدد أنها لم تتوقف بعد، وإنما دخلت مرحلة جديدة تسعى من خلالها الشعوب إلى الخروج من المصفوفة البغيضة حتى تتمكن من إسقاط النظام في بلادنا، فقد تحققت من ضرورة إكمال أهداف ربيعها وتأكدت الشعوب مرة أخرى من صدق فلسفة ثورتها.

ففلسفة الربيع العربي ، المتمثلة بإسقاط النظام،والتي صدحت به حناجر الشعوب في ميادين التحرير، لا سبيل إلى تحقيقها  إلا عبر التحرر من المصفوفة وكسر كل القوانين التي تبقي الشعوب في عبودية دائمة لها، فلا بد من كسر كل قوانينها وعلاقاتها وارتباطاتها ومقدساتها والخروج إلى فضاء الحرية ، ولا سبيل أمام  الأمة إلا الخروج من قمقم سايكس-بيكو والنظام الديمقراطي العلماني لتعيش في دولة واحدة منيعة قوية ضمن قيمها وقوانينها المتمثلة في الشريعة الإسلامية، لتحكم نفسها بنفسها بمنظومة تشريعية نابعة من عقيدتها، لا وجود فيها لدول إقليمية ضيّقة ولا معاهدات دولية تحرمها حقوقها وتسلبها أرضها وسيادتها، تشريعات وقوانين توزع ثروات الأمة على الشعوب وتطبق نظاماً اقتصادياً متكاملاً  قائماً على الأحكام الشرعية التي تحدد الملكيات وتقسم الثروات...تنشأ فيها ثورة صناعية قائمة على تحقيق الكفاية والمنعة للدولة الإسلامية ولو كلف ذلك المليارات، لأن العبرة في التحرر من النظام العالمي وليس تحقيق المكاسب المادية الرخيصة.

فالصناعات الثقيلة يجب أن تتوفر في دولة الأمة...دولة الخلافة، عبر إطلاق الطاقات واستفزاز الجهود في سبيل تحقيق التحرر والمنعة لدولة الاسلام كفرض شرعي يطال كل مسلم، ولابد لمناهج التعليم أن تحرر ومن أول يوم لتقوم على ثقافة الإسلام التي تحرر الإنسان من عبودية البشر وقوانينهم الوضيعة ليعيش في ظل عدل الإسلام وروحانيته، والحدود يجب أن تزال لتلتحم الأمة في الدولة الواحدة دون أن تعبأ بأي قوانين ومعاهدات ومصفوفات، فالإسلام يفرض أن تعيش الأمة في ظل حكم واحد ودولة واحدة، دولة تتكامل فيها ثرواتها البشرية والطبيعية لتشكل دولة عالمية حال قيامها بهذا المفهوم المتحرر من كل النظم والمصفوفات.

بذلك التحرر والخروج من المصفوفة نهدم النظام الرأسمالي  المستعمر في بلادنا، ونشكل نظاماً عادلاً فيه الأمن والسعادة والرخاء والروحانية التي افتقدتها البشرية، عالمٌ ما إن يرى ذلك النموذج المتحرر العادل حتى يبطل سحر المصفوفات الرأسمالية المتوحشة عالميا، لتبدأ شعوب العالم في الخروج على مصفوفاتها التي صنعتها لها الشركات الرأسمالية، ووضعت قوانينها النخب الرأسمالية المتنفذة والمتحكمة في أقوات البشرية وثرواتها...لينهار بذلك النظام الرأسمالي ويبدأ الربيع العالمي.

وإلى أن يزهر ربيعنا بإقامة الخلافة...يجب على الثورة أن تستمر.

 

31-12-2012