أمريكا والمسلمون ... ومعركة الصورة!

الدكتور ماهر الجعبري

 

يجري "تسطيح" محاولات الإساءة للإسلام ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم على أنها أعمال فردية، وهنالك جهود سياسية وإعلامية لتبرئة الدول الغربية من جريمة هذه الأعمال. وعند تحديد الموقف من هذه الإساءات هنالك محاولات للقفز فوق ثقافة "الديمقراطية" التي هي التربة الخصبة لهذه الإساءات، بل المحفّز لها، إذ تفتح باب حرية الرأي على مصراعيه. وبالطبع هنالك تيارات سياسية ومنابر إعلامية تحاول التوفيق بين ثقافتين غير قابلتين للمزج، كما الزيت والماء، بل كما النار والماء، وهي تطمس معركة محتدمة يجب أن تتوهج لا أن تتوقف.

 

إن القراءة الصحيحة –والموضوعية- لما يصدر من إساءة من الغرب للإسلام ومقدساته تكشف أن تلك الأعمال نابعة –عندهم- من الشعور بتحدي الإسلام كثقافة تعبّد الإنسان لخالقه، وتقع على صدر الغرب ثقيلة وتكون مرة في حلقه، إذ هو يقدس الفرد لدرجة تأليهه، ويحفّزه للتمرد على الخالق وما شرّع.

ولا شك أن الأحداث الأخيرة في ردة فعل الأمة الإسلامية قد جعلت كثيرا من الغربيين يتساءلون عن رمزية تلك الراية السوداء التي رفعها الغاضبون في وجه أمريكا وذلك اللواء الأبيض الذي نصبه الثائرون فوق سفاراتهم وهي مستباحة، مكان العلم الأمريكي. ومن ثم لتزيد من حدة التحدي.

لذلك لا يمكن النظر إلى ما يصدر من إساءات غربية إلا أنها نابعة من "ثقافة خاصة" وموجهة ضد ثقافة متحدية، ومن ثم فإن ردة الفعل من قبل المسلمين الغاضبين هي أيضا مبنية على موقف حضاري في مواجهة موقف حضاري آخر، في حالة تصادم، وهنا تبرز معركة الرموز والصور:

 

تتناول أعمال الإساءة الغربية المتكررة الرموز أو العناوين الحضارية الأبرز في الثقافة الإسلامية، وتحاول النيل منها ثقافيا وسياسيا وتعبيريا ودراميا. بل هي تركز على العنوان الحضاري الأكبر في ثقافة الإسلام وهو الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولا يمكن فهم ردة الفعل من قبل المسلمين إلا ضمن هذا السياق من صراع الحضارات، ولذلك برز في غضبة المسلمين ذلك اللواء الأبيض مع الراية السوداء، يرفعونهما كما رفعهما الرسول صلى الله عليه سلم، إذ يعتبرونهما أصدق وأعمق تعبير سياسي عن حالة التحدي الثقافي للغرب المعتدي، لأنها راية الخلافة المناقضة للديمقراطية الغربية، ولأنه لواؤها.

وتَجسّد في غضبة المسلمين مشهدُ إسقاط شعار الجهة السياسية الراعية للثقافية الغربية، وإعلاء شعار الجهة السياسية الكفيلة بإعادة الاعتبار السياسي للحضارة الإسلامية في دولة الخلافة، في تعبير درامي يعكس طبيعة المعركة بين شعارين: شعار الرأسمالية وديمقراطيتها البارزة في العلم الأمريكي، وشعار الإسلام وشريعته وخلافته البارزة في راية العقاب السوداء.

هنا تُختصر القضية ... في معركة الصور والرموز ضمن حرب الحضارات التي تتأجج يوما بعد يوم، رغم كل محاولات "الإسلام المعتدل" لإطفاء نار الحرب فيها، ورغم محاولات التوافق والتوفيق مع الغرب وثقافته، والالتقاء عند منتصف الطريق.

والحقيقة أنها معركة بين رؤيتين للحياة، وبين رسالتين:

إنها رؤية الفردية ومتعة الدنيا، في مقابل رؤية "الجماعة" الحاضنة للفرد ونظرة الآخرة.

وإنها رسالة الديمقراطية التي تقدس الحريات وتطلق لها العنان للنيل من أي رمز مهما علا في ثقافة الناس، وبين رسالة الإسلام التي تحرر الإنسان من عبودية الشهوات ومن تقديس الذات وترفع روحه وتربطها بوحي الإله.

وقد أكّدت ساسة أمريكا أنها "تقدر حرية الرأي"، ولم تعتذر، وبالتالي فإن ثقافة الغرب لا تجرّم الإساءة للإسلام ولا لرسوله صلى الله عليه وسلّم، بل هي تستهدف النيل من تلك الثقافة السماوية، لأنها تهدد ثقافة الليبرالية في وجودها وفي حدودها.

 

ومن هنا تتضح وعورة الطريق الذي سلكه من حاول إخماد نار تلك الحرب الحضارية من أبناء المسلمين، بل خطورته. لأنه يدفع المسلمين لصد الهجوم الحضاري الغربي بأدوات الغرب المصممة خصيصا لهزيمة المسلمين.

وهؤلاء الذين يحاولون إخماد نار الحرب الحضارية، لا يدركون أهمية معركة الصورة بالنسبة لأمريكا، أو هم يدركون ويريدون تجاوز ذلك الإدراك، ويتعامون عن سعي أمريكا لتحسين صورتها العالمية عبر سياسة الاحتواء وعبر المنح والمساعدات، وعبر حرف الثقافة الإسلامية لتتوافق مع ثقافة الغرب.

وهم يقبلون السير تحت راية "الاعتدال" الذي يقتضي في حقيقته الميل عن ثقافة الإسلام نحو ثقافة الغرب، يعملون على تمرير المفاهيم الغربية على أنها لا تتعارض مع الإسلام، ومن خلال التلبيس بصرف المعاني عن سياقها الصحيح، كأن يسطّحون الديمقراطية على أنها الشورى، والدولة المدنية على أنها ضد العسكرية، مع أن أبسط قواميس السياسة تدرك أن تلك المفاهيم لا تصدر إلا عن العلمانية والليبرالية الغربية، ولا يمكن أن تتمازج مع الإسلام.

وسواء أدرك أولئك "التوفيقيون" تلك المعركة أم لم يدركوها، فإن أمريكا تدرك أهمية معركة الصورة بالنسبة لها ولوجودها، وهي تخوضها في حربها ضد الإسلام السياسي الذي يحمل مشروع الخلافة.

 

ولذلك ركّز اوباما في بداية رئاسته على محاولات مد جسور التواصل مع العالم الإسلامي، وعلى ترميم صورة أمريكا التي كانت قد تلطخت في حروب أمريكا الظالمة ضد المسلمين، ووقف اوباما خطيبا في تركيا في العام 2009 يعلن أن أمريكا ليست في حرب مع الإسلام. ثم أكمل الرسالة في خطابه في القاهرة بعد ذلك.

ومن المعلوم للمتابعين السياسيين أن هنالك مجموعة من التقارير والدراسات الإستراتجية التي صدرت عن حاضنات التفكير الأمريكية إبان إدارة بوش، ركّزت على الحاجة لتلميع صورة أمريكا، مثل دراسات زينو باران التي تخصصت في مركز نيكسون (في واشنطن) ضمن مجال تشخيص خطورة مشروع الخلافة في مواجهة الديمقراطية. وهي اعتبرت أن الإسلام السياسي الحامل لمشروع الخلافة استطاع أن يضرب برجين في الفكر الغربي، وهما الرأسمالية والديمقراطية، (مقال باران "القتال في حرب الأفكار" -مجلة الشؤون الخارجية 2005)، واقترحت باران على أمريكا "إغراء المسلمين"، وقالت: "من أجل كسب المعركة الفكرية، فإن أمريكا بحاجة إلى أن تتجمل لتجذب المسلمين." وحاولت إدارة بوش أن تباشر وضع المكياج على وجهها القبيح المسودّ، وعينت مسئولة لذلك الغرض إلا أنها فشلت واستقالت.

لذلك تدرك أمريكا خطورة سقوط صورتها، وتفهم تماما المغزى السياسي الخطير خلف إسقاط علمها عن سفاراتها "المحمية بهيبتها العالمية"، وبل تُفزعها فظاعة مقتل سفيرها في مأمنه. ومن ثم لا بد أن يدرك المسلمون أهمية تلك المعركة على الرموز، إضافة إلى بقية المعارك مع الغرب.

 

إنها بكل بساطة معركة الصورة ضمن حرب حضارية بين ثقافتين عالمتين، وأمريكا تخسرها، والأمة الإسلامية تكسبها، ولكن هناك نفر من المسلمين يحشر نفسه اليوم في خندق أمريكا –من حيث أراد أم لم يرد- ويسهم في التقليل من وقع الهزيمة على أمريكا، وفي تأخير معركة الحسم الحضاري من خلال تجنب تصعيد تلك الحرب، ومن خلال ترويج دعاوى التعايش الذي هو في حقيقته نهج انبطاح، لأن الليبرالية والديمقراطية لا يمكن أن تتعايش مع "الإسلام السياسي" إلا وهو مكسور ومنبطح.

إنه من المحتم على الأمة الإسلامية أن تخوض معركة الرموز بعزة وعنفوان، وأن ترفض محاولات الخضوع والتنازل أمام الهجوم الثقافي والسياسي عليها، ويتوجب عليها رفض دعاوى التهدئة والمهادنة، لأنها تناقض مصلحة الأمة الحيوية في استعادة البريق للإسلام كمشروع حضاري عالمي في مقابل حضارة الغرب.