قضية فلسطين-15

الحرب على الإرهاب والسلام العربي

الدكتور ماهر الجعبري

 

ضمن سلسلة "قضية" فلسطين، يصور هذا المقال المشهد السياسي المتناقض خلال مرحلة الهجمة الأمريكية على الأمة الإسلامية تحت شعار الحرب الإرهاب، وانعكاسات ذلك على "قضية" فلسطين.

خلال التسعينات من القرن الماضي ظلت توجهات أمريكا حول "أزمة الشرق الأوسط" تتمثل في تلازم مسارات الحل، ولذلك كانت أعمالها السياسية تقوم على عدم استكمال المسار الفلسطيني إلا بعد حسم المسار السوري أو بالتلازم معه. ومع نهاية القرن العشرين، كانت قيادات المنظمة قد تورطت بمشروع خدماتي يعفي الاحتلال من مسئولياته، متلازم مع مشروع أمني يحمي ذلك الاحتلال. وتم تعديل الميثاق الوطني ليتوافق مع المرحلة الجديدة التي تتطلب تحقيق "أمن إسرائيل" بعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني ليكون شاهد زور على مسيرة الانبطاح، إلا أن استكمال الحل قد تعطل أمام العناد "الإسرائيلي". وبعد وصول بارك لرئاسة الحكومة "الإسرائيلية"، تأملت رجالات السلطة بدفع عملية السلام، ثم صارت تهدد بانفجار شعبي من أجل تحريكها.

ووافق باراك في شرم الشيخ في 4/9/1999 على التوقيع على نسخة معدَّلة من اتفاقية واي ريفر لترتيب إعادة انتشار الجيش "الإسرائيلي"، وذلك بحضور الرئيس المصري وملك الأردن. وظلّت الاتفاقية كغيرها مما سبقها فارغة من المضمون السياسي بالنسبة للفلسطينيين، بل محتشدة بالمضامين الأمنية وبمزيد من التكبيل للسلطة، إذ نصت على أن الطرفان "سيعملان لضمان التعامل الفوري والفعّال مع كافة الحوادث التي تشمل أعمال عنف وإرهاب أو التهديد بها أو التحريض"، وهكذا أضافت الاتفاقية هنا أعمال "التحريض" ولم تقتصر على العمل العسكري. وركزت على التعاون الأمني وتبادل المعلومات، وألزمت الاتفاقية "الجانب الفلسطيني بتنفيذ مسؤولياته الأمنية والتعاون الأمني والتزاماته المستمرة" (نص اتفاقية شرم الشيخ 7/9/1999).

وكما وعد باراك خلال حملته الانتخابية، انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في أيار 2000 من طرف واحد. وكان باراك قد أبدى استعداده مبدئيا للالتزام بوديعة رابين، ففتحت أعماله ومواقفه تلك الفرصة أمام إدارة كلينتون لتفعيل المسار الفلسطيني. وعلى هذا الأساس تتابعت اللقاءات بين باراك وعرفات وكلينتون، من أجل الوصول إلى حل قبل نهاية إدارة كلينتون.

وفي ربيع العام 2000 تكشفت مفاوضات استكهولم بين المنظمة "وإسرائيل" عن وجود فرصة لتحقيق انجاز لكلينتون يختم به سجل إدارته. ولذلك حاولت أمريكا في مفاوضات كامب ديفيد-2 (11/7/2000) حسم قضايا الحل النهائي، وصار عرفات يُكثر الحديث عن سلام الشجعان، وكانت الأجواء تشير إلى وجود اتفاق، وقد نُقل عن صائب عريقات من طاقم المفاوضات الفلسطيني قوله "أن المؤتمر أنجز أكثر من 80 بالمائة من مسائل الحل النهائي". (ولاحقا، أشار الرئيس الجزائري بوتفليقة  إلى وجود اتفاق بين عرفات وباراك، واتهم بوتفليقةُ عرفات في 11/10/2000 بالتستر على نتائج قمة كامب ديفيد التي انتهت بتوافق كامل على القضايا المطروحة).

ولكن ما تمخض عن كامب ديفيد-2 كان عسيرا على الهضم عند الناس، بل كان قابلا لتفجير غضب الناس كونه يتصادم بشكل حاد مع الرأي العام في فلسطين، وهو ما عبّر عنه محمود عباس عندما قال: "إن المعروض علينا ليس حلاً، بل هو تنظيم لأسوأ أنواع الاحتلال" (مجلة الوعي-العدد 162)، وأكّد عباس في حينه استعداد السلطة الفلسطينية لقبول وجود دولي على الحدود، مما يعني أن القضية لم تكن قضية تحرر بل كان الاتفاق استبدال احتلال بآخر (دولي بيهودي)، ومن الجدير ذكره أن عباس لا يزال يجدد هذا الموقف حول قبول قوات (احتلال) دولية من حين لآخر.

ما تمخض عن كامب ديفيد-2 لم يكن مقبولا عند الرأي العام ولا عند الوسط السياسي في "إسرائيل"، وخصوصا ضمن تيار اليمين الذي يقوده حزب الليكود والذي يرفض ذلك مبدئيا. ولم يكن حزب العمل موحدا على رأي باراك في الاتفاق، بل كان هنالك تيار التفّ حول بيرس يرفض الاتفاق، دون المواجهة السياسية مع باراك. ولذلك أعلن فشل تلك المفاوضات حتى يتم ترويض الرأي العام عند الطرفين لقبول هكذا اتفاق، ورحل كلينتون بلا إنجاز.

وبعد مفاوضات كامب ديفيد-2 بشهرين تقريبا، قام شارون (زعيم حزب الليكود في حينه) بزيارة استفزازية للمسجد الأقصى، فجرت انتفاضة فلسطينية ثانية، وانطلق الشباب الغاضبين مما آلت إليه القضية، والمنكرين لجريمة المفاوضات، في هبات شعبية جديدة.

لم تكن تلك الانتفاضة الثانية كسابقتها من حيث العفوية. صحيح أن هبات الناس تحت الاحتلال تنطلق من مشاعر صادقة، ولكن الأجواء السياسية كانت ملبدة بغيوم الانتفاضة قبل انطلاقها، وكانت رجالات السلطة تهدد قبل الانتفاضة بانفجار شعبي، وقد نقل عن محمود عباس قوله "لا بد من عملية عسكرية ترغم الطرفين على فتح الطريق أمام التوصل إلى الحل النهائي" (حصاد ثمانين عاما من الكفاح). وكانت زيارة شارون بمثابة البرق الذي أشعلها، حيث حشد معه آلاف الجنود للاستفزاز الذي يشعل الموقف طبيعيا. وبعد انطلاق الانتفاضة، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 10/11/2000، أن شلومو بن عامي قال: "من الممكن أن تفضي الانتفاضة الحالية بالشعبين إلى النضوج والإقرار بحدود الحد الأدنى لكل طرف وطبيعة الاتفاق النهائي". ولا شك أن السلطة الفلسطينية أرادت استغلال الانتفاضة الثانية لتسريع عجلة المفاوضات، وخصوصا أن قياداتها كانت صاحبة أسبقية في حرف الانتفاضة الأولى وفي استغلالها من أجل المفاوضات

وبالطبع رحّب الحكام العرب بالانتفاضة الثانية وفتحوا المجال للدعم والتمويل، من أجل الضغط على باراك لاستكمال مسيرة السلام، ولكن باراك لم يستطع فعل شيء إذ كانت غالبية السياسيين "الإسرائيليين" ترفض مبدأ الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967، ومنها الجولان، فاستقال باراك مع نهاية العام 2000.

وتزامن ذلك مع وصول بوش الابن لرئاسة أمريكا، ثم تسلم شارون رئاسة وزراء "إسرائيل"، وهو صاحب نظرة ليكودية أكثر تطرفا، وذو سجل إجرامي أنذر بمجازر جديدة، وهكذا استجد لاعبون جدد على الساحة، وشتت فرصة التسوية التي كانت قد لاحت بالأفق مع قدوم باراك.

 بدأ بوش إدارته مترددا في مباشرة العمل على ملف المفاوضات، وتخلّت إدارته بعد شهر من توليه عن محاولات كلينتون ومقترحاته. وفتح شارون سجلا جديدا لإجرامه، وأخذت "إسرائيل" تمارس الإجرام، فيما بقيت تتهرب من أي توجّه للانسحاب من الجولان، بل صارت تبحث عن تأصيل للتاريخ اليهودي فيها، وقد نقل عن شارون حديثه عن اكتشاف "معطيات مذهلة عن الوجود الإسرائيلي" في الجولان من خلال آثار وجدت" (مجلة الوعي-العدد 173).

ولذلك بدت الآفاق مغلقة أمام الحل الأمريكي في حينه. وصارت أمريكا تحاول تسكين الأوجاع عبر نهج إدارة الأزمة، ومن خلال زيارات علاقاتية لمندوبين ترسلهم في زيارات متتابعة، كان أولهم تنت مدير المخابرات الأمريكية الذي كان قطب رحى في التنسيق الأمني والترتيب السياسي بين السلطة "وإسرائيل" منذ اتفاقية واي ريفر عام 1998 (كما بيّنت صحيفة "الشراع" في 22/01/2001)، ورأس "هيئة تحقيق للبحث في أسباب اندلاع العنف في فلسطين المحتلة والوقوف يومياً على المستجدات الحاصلة على الساحة".

 

وبوقاحة صارخة، جدد الحكام العرب تخلّيهم الصريح عن مسئوليتهم تجاه أهل فلسطين في مؤتمر القمة العربية الرابع والعشرين الذي عقد في 28/03/2001، ووجهوا القضية نحو التدويل وطلب الحماية الدولية، كأنهم يتحدثون عن شعب من أقاصي الأرض لا عن جزء من الأمة الإسلامية، ونصّت مقررات تلك القمة على تأكيد "القادة مجدداً مطالبتهم لمجلس الأمن بضرورة تحمل مسئولية توفير الحماية الدولية اللازمة للشعب الفلسطيني… وتشكيل قوة دولية لهذا الغرض"، مضللين في تخليهم عن مسئولياتهم.

وفي نيسان 2001، صدر تقرير ميتشل (رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ الأميركي) والذي رأس "لجنة تقصي الحقائق في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، وقد حث "إسرائيل" على العمل بسرعة وبحزم لوقف العنف تمهيدا لإعادة الثقة واستئناف المفاوضات، وحثّ الطرفين على التزام التعاون الأمني، وعلى التزام بنود اتفاقية واي ريفير (الأمنية بامتياز)، وطلب ضبط الأجهزة الأمنية الفلسطينية، إضافة لذلك تضمن التقرير تجميد الاستيطان، لا وقفه (تقرير ميتشل).

ثم صار ذلك التقرير محطة من محطات القضية، ودارت حوله متابعات فارغة من المضمون، وكانت "إسرائيل" تسير في اتجاه القمع والقتل لا في اتجاه الحلول السلمية. وحسب عقلية الليكود الرافضة لأي معنى من معاني الكيان الفلسطيني، حاول شارون بعد تسلمه الحكم إقناع أميركا بضرورة التخلص من عرفات لأنه "لم يعد الشريك المناسب" (كما ذكرت الحوادث في 08/06/2001)، ومع أن الاقتراح وجد صدىً لدى وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد، ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، لكنّه لم يُقرّ في حينه، وكانت أمريكا قد أبلغت "إسرائيل" "أن عليها أن تعتبر أن رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات هو حالياً وحتى إشعار آخر تحت الحماية الأميركية، وعلى هذا الأساس ينبغي عدم التعرض لحياته مهما كانت الظروف" (حسب صحيفة المحرر نيوز في 23/11/2000)، ويبدو أن ذلك "الإشعار الآخر" تتطلب ما يقرب من ثلاث سنوات.

كان الاهتمام الأميركي أمنيا يركّز على التهدئة ووقف الانتفاضة لأن الوضع أصبح مهددِا لاستقرار المنطقة، وللحكام العملاء الذين يحرسون مصالح الغرب فيها. بينما كان الموقف الأوروبي يدفع نحو تفعيل مسار الحلول السياسية والعودة إلى مباحثات الحل النهائي واستئنافها من حيث انتهت في إدارة الرئيس الأميركي السابق كلينتون.

 

وفي تلك الأجواء السياسية، حاول الحكام العرب تسريع مسار التطبيع مع الاحتلال، وخصوصا من قِبَل الأنظمة ذات العلاقة العريقة مع بريطانيا، وكانت قطر سبّاقة في ذلك المشوار. وصارت قناة الجزيرة تفتح شاشتها لقادة "إسرائيل" لمخاطبة الأمة، الأمر الذي واجهته الأوساط الإعلامية باستهجان كبير في البداية. ثم أخذت قطر تتعرى وتتكشف عن علاقة مفضوحة مع "إسرائيل"، ودخلت على خط القضية من خلال الاتصالات السرية مع قادة "إسرائيل"، وقد نقلت صحيفة "الاتحاد" الإماراتية (في 1/8/2001) أن وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم زار إسرائيل سرا والتقى رئيس الوزراء شارون، والتقى بيريز من حزب العمل.

حصلت تلك اللقاءات السرية فيما كانت "إسرائيل" ترتكب المجازر ضد أهل فلسطين برعاية أمريكية باركت "القتل المستهدف"، حسب تعبير "إدوارد ووكر" رئيس معهد الشرق الأوسط (في جريدة الحياة 20/8/2001).

أما على مستوى الشعب في فلسطين، فقد كان اندحار جيش اليهود عن جنوب لبنان من طرف واحد (عام 2000 قبل الانتفاضة الثانية)، قد شحن فيهم الروح الجهادية، وجدّد إقبالهم على التضحية والنضال، فعادت العمليات الاستشهادية بقوة، مما زاد من خطورة الوضع الأمني، وأبرز حاجة لتهدئة الأجواء واحتواء الموقف.

في هذه الأجواء الأمنية، تمكّن الأوروبيين من تحقيق نجاح مرحلي في التدخل في القضية، وبدأت القوى الغربية تتوافق على مواجهة ما تسميه "الإرهاب"، والتقت كل الجهود على التهدئة خشية انفجار الأوضاع خارج حدود السيطرة، ولذلك أتاحت أميركا المجال أمام أوروبا للتحرك معها لاحتواء الموقف، ومن ثم اتفقتا على موقف موحد تجاه ما يجري في فلسطين المحتلة خلال مؤتمر القمة السنوي للدول الثماني العظيمة (أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وكندا وروسيا) وذلك في تموز 2001، حيث قرروا أن "الوضع في الشرق الأوسط خَطِر للغاية". ومن ثم توافقوا على "أن تقرير ميتشل في مجموعه هو السبيل الوحيد للسير قدماً من أجل كسر المأزق القائم ولوقف التصعيد ولاستئناف العملية السياسية"، والتقوا على أن "تبدأ مرحلة التبريد بأسرع ما يمكن" بما يتضمن "مقاومة التطرف والإرهاب".

 

ثم جاءت أحداث أيلول 2001 لتغير دفّعة الأحداث في العالم، وتزيد من إغلاق الأفق أمام دفع عملية السلام. عندها أعادت أمريكا ترتيب ميزان الأولويات بعيدا عن قضية فلسطين، وخصوصا عندما أعلن بوش الابن في 16/09/2001 عن حملة صليبية لضرب أفغانستان، ورفع شعار الحرب على الإرهاب، قاصدا الحرب على المسلمين والإسلام، فغرقت الأمة الإسلامية في جرائم أمريكا، في ظل صمت بل تآمر حكامها.

ومن أجل دغدغة المشاعر في أجواء الهجمة الأمريكية على أفغانستان، وفي ظل الحاجة لوقف الانتفاضة، أفصحت أمريكا عن موافقتها على دولة فلسطينية بجانب دولة "إسرائيل"، وقال بوش في خطابه أمام الأمم المتحدة بتاريخ 10/11/2001: "نعمل ليوم تعيش فيه دولتان: إسرائيل وفلسطين معاً بشكل سلمي ضمن حدود آمنة ومعترف بها كما دعت لذلك قرارات مجلس الأمن"، وكان ذلك التصريح بداية التحريك الجديد لحل الدولتين، ولكنه كان تحريكا عاطفيا لا سياسيا، وضمن ظروف الحرب الأمريكية على الأمة الإسلامية.

أما "إسرائيل" فقد استغلت شعار "الحرب على الإرهاب" لمزيد من القتل والإجرام في فلسطين، وأعادت نشر دباباتها داخل مناطق السلطة الفلسطينية، وغضّت أمريكا الطرف عن جرائم "إسرائيل"، وقد كانت تستخدم الذريعة نفسها، وقد كانت من نوع جرائمها في أفغانستان

ومن أجل حشد الأنظمة العربية مع أمريكا في حربها على أفغانستان، أعلنت أمريكا عن "مبادرة الشرق الأوسط الجديد" في تشرين أول 2001، وقد استخدمت نفس الشعار الذي كان شمعون بيرس قد عنون به كتابه عام 1994 (أنظر الحلقة رقم 12 من هذه السلسلة).

وفيما ظلّت أمريكا تركّز على تهدئة الأوضاع المشحونة عند الأمة وتسهيل ما أعدت له من حرب، ظلّ الكيان اليهودي يوغل في الإجرام، مستغلا شعار الحرب ضد الإرهاب، وشن عمليات عسكرية ضد قوات الأمن الفلسطينية، وأخذ يدمّر مقراتها. وفي الوقت نفسه، كررت قيادات المنظمة تجربة القنوات السرية حيث تحدثت بعض وسائل الإعلام في حينه (4/1/2002) عن مذكرة تفاهم بين شمعون بيرز وأحمد قريع حول قيام الدولة الفلسطينية.

وتصاعدت الانتفاضة وأصبحت أكثر إيلاما لليهود، وصارت أعمالها تقضّ مضاجعهم، وازداد الضغط الشعبي والسياسي الداخلي على شارون، وانطلقت مظاهرات ضد سياسته في تل أبيب، وحصل تمرّد من جنود الاحتياط، وظهرت مطالبة من تجمع كبار العسكريين والجنرالات المتقاعدين للانسحاب من طرف واحد، وتزامن ذلك مع وجود أزمة اقتصادية حادة

ثم تجاوبت الأنظمة العربية –في ظل تلك الأجواء المشحونة- للحاجة للتهدئة وتغاضت عن جرائم الاحتلال اليهودي، بإعلان مبادرة للسلام أطلقها الأمير السعودي عبد الله (ولم يكن ملكا في حينه)، وقد كانت طبخة أمريكية أعدّها توماس فريدمان (إعلامي ومنظّر أمريكي من أصل يهودي). وبرزت الحاجة الأمريكية لتلك المبادرة مع ظهور دعوات دولية لتخطي تقرير ميتشل في معالجة الأزمة، ومع ارتفاع الأصوات لطرح "تفكير جديد" في المعالجة.

وتبنى الأمير عبد الله آنذاك المبادرة الأمريكية لعرضها على العرب، ومن ثم تبنتها القمة العربية في آذار 2002، وأصبحت تسمى المبادرة العربية للسلام العربية، تماما كما تبنت القمة العربية عام 1982 مبادرة الملك فهد للسلام ردا على جريمة اجتياح لبنان. وكان شارون قد ردّ على تلك المبادرة القديمة بجريمة صبرا وشاتيلا، كما رد من جديد على مبادرة عبد الله وقمّة العرب باجتياح جديد، وسحق مخيم جنين. وهكذا أكدت السعودية مرة تلو الأخرى تلك العقلية المتآمرة على قضية فلسطين، وهي تغطي جرائم اليهود في كل مرة.

وحذّرت المبادرة العربية من "إغراق الشرق الأوسط بالفوضى وعدم الاستقرار"، بينما مارست التضليل وهي تمتدح الانتفاضة، وتواقحت إذ اكتفت بالرد على جرائم الاحتلال اليهودي بالطلب من "إسرائيل إعادة النظر في سياساتها"! (مبادرة السلام العربية).

عرضت المبادرة التطبيع الكامل مع الاحتلال في مقابل الانسحاب إلى حدود 1967 ومن ضمنه الجولان ضمن عملية سلام "شاملة" وعلى مبدأ الأرض مقابل السلام، مصرة على المبدأ الأمريكي حول "تلازم المسارين السوري واللبناني وارتباطهما عضوياً مع المسار الفلسطيني"، مما يؤكد أنها كانت أمريكية بجدارة. إضافة لذلك فإن المبادرة العربية للسلام عندما ربطت التطبيع بالحل الشامل (وتلازم المسارات) قد أعادت ضبط إيقاع التطبيع الذي كانت بعض الأنظمة تهرول نحوه قبل اكتمال الحل بدفع أوروبي. ورغم انبطاح الحكام العرب، ظلّت "إسرائيل" غير معنيّة بعملية السلام، ولم يكترث شارون لمبادرتهم، بل رد عليها باجتياح جنين، وحصار ياسر عرفات في رام الله.

ومن ثم تصاعد الحديث "الإسرائيلي" حول ضرورة وجود قيادة بديلة، وهو المطلب الذي أعلنه شارون منذ تسلمه لرئاسة الحكومة. وكان عرفات قد حاول إعادة وضع قطار السلطة على سكة التوجهات الأوروبية، وذلك في سياق العلاقات العريقة (السابقة) لحركة فتح مع البريطانيين.

ورغم أن أمريكا سبق أن وضعت عرفات تحت حماتيها في أكثر من مناسبة، وكان آخرها عند مطالبة شارون الأولى بالتخلص منه، إلا أنها تبنت في النهاية مسألة القيادة البديلة، فدعا بوش للإطاحة بعرفات في حزيران 2002. وهو ما أوجد حالة من التجاذبات السياسية بين أمريكا وبريطانيا، وقال رئيس الوزراء البريطاني بلير رافضا دعوة أمريكا: "الأمر يعود للفلسطينيين لاختيار قادتهم".

وحاولت بريطانيا ضخ الدماء في العملية السلمية من خلال مؤتمر جديد على غرار مدريد، واتهمت أمريكا بالازدواجية. ومع التدخلات الأوروبية، بدأت أحاديث التهدئة تدخل قاموس حركات المقاومة الإسلامية في العام 2002، ورعت مصر لقاءً بين فتح وحماس والجهاد للدفع نحو التهدئة تحت حجة أن لا "يُعطى الإسرائيليون ذريعةً لأنهم يقولون إن الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني سببها العمليات الاستشهادية"، حسب تصريح لأحد قادة الجهاد الإسلامي (مجلة الوعي –العدد 190). وفي ذلك الوقت كانت القوى الاستعمارية تدفع للتهدئة في فلسطين من أجل إشعال الأرض في عاصمة الخلافة في العراق.

في تلك الأثناء، ظل الفساد يستشري في السلطة وأجهزتها، فعلت الأصوات المطالبة بالإصلاح وخصوصا إصلاح الأجهزة الأمنية، وظهرت مطالبات بإجراء انتخاباتٌ بلدية وتشريعية ورئاسية (في سياق الحديث عن القيادة البديلة)، إلا أن أجواء المقاومة الإسلامية كانت رافضة للانغماس في وحل السلطة رغم المحاولات المبكرة لجر حماس نحو مستنقع منظمة التحرير الفلسطينية. وفي 9/5/2002 كتب عبد العزيز الرنتيسي –رحمه الله- مقالا يؤكد فيه رفض وجود سلطة تحت الاحتلال (هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟). وشكك فيه بدعاوى الإصلاح وقال "طغت هذه الأيام موجة إصلاح السلطة وإعادة تأهيل أجهزتها على ألسنة الساسة الأمريكان واليهود، وسرعان ما ظهرت أصداءُ هذه التصريحات على ألسنة رموز السلطة، فراحوا يتحدثون عن أن هذه الإصلاحات لم تكن بوحيٍ من أحد وإنما هي قضية ذاتية داخلية ونوعٌ من تصويب الذات".

 

ومع تعاظم الإرهاب الأمريكي ضد المسلمين، ازداد تشوّه صورة أمريكا في العالم الإسلامي، مما هدّد حضورها السياسي وأنذر بزعزعة رجالاتها في المنطقة، ولذلك صدرت توصيات إستراتيجية أمريكية تدعو لتحسين صورة أمريكا في العالم، ومنها العمل على حل الدولتين لإبراز نوع من العدالة في السياسة الأمريكية. ومع تخوف أمريكا من استغلال أوروبا للظروف الدولية وخطف أوراق القضية من يد أمريكا، ارتأت أمريكا تأكيد "رؤية الدولتين"، كتحريك شكلي للعملية السلمية، وخصوصا مع تحضيرها للحرب الجديدة على العراق، كما جاء في خطاب غامض وغير مترابط لبوش في 24/6/2002 تناول فيه أزمة الشرق الأوسط، وألمح فيه إلى إيجاد دولة فلسطينية ضمن ما أسماه خارطة طريق. ومع ذلك رأى أن تكون مؤقتة، ووضع شروطا لإنشائها في قوله: "وعندما يكون للشعب الفلسطيني قادة جدد، ومؤسسات جديدة، وترتيبات أمنية جديدة مع جيرانه، سوف تدعم الولايات المتحدة الأميركية إنشاء دولة فلسطينية تكون حدودها وبعض نواحي سيادتها مؤقتة إلى أن تُحَلّ كجزء من تسوية نهائية في الشرق الأوسط."

ومن ثم حرك بوش حملة علاقات عامة لمسئولين أمريكيين، منهم المبعوث الأمريكي العام آنتوني زيني ونائب الرئيس ديك تشيني. وظلّ ذلك حراكا كاذبا إذ كانت عيون أمريكا تتجه نحو العراق من أجل الضربة التالية بعد أفغانستان. وبالفعل بدا العدوان الأمريكي على العراق في 19/3/2003، وغطست الأمة في وحل دماء جديد أسالتها وحشية أمريكا ضمن حملة إرهابها ضد الإسلام.

وتلخص المشهد السياسي لقضية فلسطين على مدخل القرن الجديد بالمعالم التالية:

•        تبنت أمريكا سياسيا مسألة القيادة الفلسطينية الجديدة وضرورة التخلص من عرفات.

•        سيطر شبح الحرب على الإرهاب على الأجواء الدولية، ولم يتحرك فيها ملف التسوية السياسية إلا بالقدر الذي يؤمّن لأمريكا شحن القوى معها فيما أعلنته من حرب ضد الأمة الإسلامية.

•        استغلت "إسرائيل" تلك الأجواء والشعار الأمريكي لارتكاب المجازر وإراقة دماء أهل فلسطين.

•        رد الحكام كعادتهم على تلك المجازر بالمبادرة العربية للسلام، بينما دخلت السلطة مرحلة موت سريري.