قضية فلسطين-9

انتفاضة ذاتية تمتطيها قوى الشر لحرفها عن مسار التحرر

الدكتور ماهر الجعبري

يتناول هذه المقال مرحلة انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى والأجواء التي اشتعلت فيها، ويبين كيفي تم امتطائها من قبل القوى السياسية ومن ثم حرفها عن مسارها التحرري، وذلك ضمن سلسلة "قضية" فلسطين.

لم تحدث تطورات جوهرية في مسيرة الحلول السلمية خلال عقد الثمانينات، رغم تصفية الكفاح المسلح بعد إخراج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، ورغم تحوّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى كيان سياسي يغرد (بل ينعق) ضمن سرب الأنظمة العربية اللاهثة نحو الحلول السلمية، ويتآمر معها للصلح مع "إسرائيل" على أساس القرارات الدولية، ورغم اتفاق المنظمة –المرحلي- مع الأردن على فكرة "الكيان المشترك"، ورغم حصول توافق في الرؤى الدولية حول إيجاد كيان فلسطيني يتحد مع الأردن بنوع من العلاقة السياسية، إذ أصرّت "إسرائيل" على رفض فكرة الانسحاب، وظلت ترفض مبدأ التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية رغم انبطاح الأخيرة، وحاولت "إسرائيل" إيجاد قيادة فلسطينية بديلة.

وبعد تشكيل حكومة ائتلاف "إسرائيلية" من حزب العمل وحزب الليكود برئاسة شمعون بيريز من حزب العمل (الذي يقبل مبدأ منح الفلسطينيين صلاحيات "الحكم الإداري" المرتبط مع الأردن)، أخذ بيريز يتحدث عن استعداد حكومته للدخول في مفاوضات مباشرة مع الملك حسين ومع شخصيات فلسطينية من خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية. وجاءت تصريحات بيريز كأنها إعادة عزف لألحان مشروع آلون الذي سبقت بلورته في السبعينات من القرن الماضي (كما مر في المقال رقم 6 من هذه السلسلة). وهو مشروع يقبل مبدأ ضم التجمعات السكنية الفلسطينية إداريا إلى الأردن، على شكل "كنتونات" مقطعة الأوصال، فيما تحافظ "إسرائيل" على الهيمنة العسكرية والاقتصادية.

وأمام تلك المواقف "الإسرائيلية" المتعنتة، تباطأت أمريكا في سعيها لحل القضية الفلسطينية، فيما ظلّت تتحيّن الفرص لتهيئة الكيان اليهودي للقبول بمبدأ الحلول والمفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية، إذ كانت أمريكا تصرّ على مباشرة الفلسطينيين بأنفسهم عملية التنازل عن الأرض والتوقيع على معاهدة الصلح من أجل الوصول إلى حل نهائي، وقد أسست وجهّزت منظمة التحرير لهذا الغرض. وإضافة لموضوع إشراك المنظمة بالمفاوضات، توجهت أمريكا خلال عقد الثمانينات للتخطيط لأن يتوافق مسار الحل مع سوريا مع مسار الحل الفلسطيني أو أن يسبقه.

ثم تصاعد الحديث في أروقة الدول الكبرى عن عقد مؤتمر دولي للسلام، وتجاوبت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية مع الفكرة، إذ انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في نيسان 1987 من أجل توحيد الفصائل الفلسطينية على موقف القبول بالحلول السياسية والمصادقة على اشتراك المنظمة بالمؤتمر الدولي تحت قيادة ياسر عرفات بعد "حوار وطني شامل" وتحت شعار "أهمية دعم وترسيخ الوحدة الوطنية الفلسطينية"، ونصّت مقرراته على العمل "في إطار مؤتمر دولي فاعل تشارك فيه الدول الأعضاء دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وكافة الأطراف المعنية بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية على قدم المساواة مع الأطراف الأخرى" (الدورة الثامنة عشر).

ومع ذلك، ظلّت "إسرائيل" تضع العراقيل أمام أي محاولة للمضي قدما نحو السلام الذي يفرض عليها الانسحاب.  ثم أربكت إدارةَ ريغان فضيحةُ قيام الإدارة الأمريكية سرا ببيع أسلحة إلى إيران بينما كانت في حرب ضروس مع العراق ("إيران جيت" ... جريمة تهريب سلاح بـ"توقيع الرئيس")، (ومن الجدير هنا الانتباه إلى عراقة العلاقة بين النظام الإيراني الذي يدّعي الممانعة وبين أمريكا). ولذلك تعذّر على أمريكا دفع المسيرة السلمية من جديد، في مشهد كرر العراقيل التي واجهها نيكسون ضمن فترة السبعينات.

في هذه الأجواء من جمود المشهد السياسي دون تقدم سياسي ملموس، وفي ظل انبطاح الأنظمة العربية ولهث منظمة التحرير خلف الحلول السلمية، فاجأت انتفاضة فلسطين الأولى جميع اللاعبين بعفويتها الشعبية، عندما اندلعت بعنفوان في 9/12/1987. وصار الشعب في المقدمة وصارت القيادات والأنظمة في المؤخرة، تحاول اللحاق بالشعب الثائر الذي تمرّد على محتله وعلى محاولات كبته ومعاناته في ظل المعاملة الوحشية من قبل الاحتلال "الإسرائيلي", وتمرّد على الإحباط وخيبة الأمل من كافة اللاعبين على الساحة السياسية الرسمية من الذين ظلّوا يصرون على مسيرة السلام والتنازل عن الأرض، وعلت أصوات التحرر الشعبية فوق أصوات الانبطاح الرسمية.

وقد احتشدت مجموعة من الشرارات الصاعقة التي فجّرت الانتفاضة في شعب قابل للاشتعال، منها العملية الفدائية البطولية التي قام بها خالد أكر، عندما قاد طائرة شراعية اخترقت جميع الدفاعات "الإسرائيلية" الجوية الحصينة، وهبط في قاعدة عسكرية وهاجم جنودها بجرأة وبطولة فريدة، فقتل منهم من قتل وفر البقيّة من أمامه مذعورين، وجدد بذلك العمل البطولي الفذ معنويات المسلمين في فلسطين، وجدد نفسيّاتهم بمشاعر التحدّي، فيما أضعف المعنويات لدى الجنود اليهود. وتضافرت أجواء تلك العملية مع جريمة اعتداء وحشي من قبل سائق سيارة "إسرائيلي" ضد ثلاث شبان فلسطينيين قتلهم بوحشية، فاجتاحت أهل فلسطين غضبة إسلامية هائلة، فجرت الأرض تحت أقدام الاحتلال في بركان زلزل كيان الاحتلال في حينه، وبعث في الأمة حب الاستشهاد، وتصدّر المسلمون المخلصون واجهة المواجهة على الأرض، وبدأت القضية تُشحن من جديد بطاقة الإسلام الذي يرفض الاحتلال ويرفض الحلول السلمية.

لا شك أن الانتفاضة أربكت جميع القوى السياسية المحلية والإقليمية والعالمية، وفرضت قضية فلسطين نفسها على الأجندات السياسية لجميع الأطراف من جديد: فعلى الصعيد العالمي، وجدت أمريكا في الانتفاضة أداة ضغط على "إسرائيل"، فيما وجدت بريطانيا فيها فرصة لمماحكة أمريكا وفضح تباطؤها في السير نحو السلام أمام تعنت "إسرائيل".

أما الأنظمة العربية، فلم تملك إلا أن تفتح المجال لدعم الانتفاضة إعلاميا حتى تحافظ على هدوء الشعوب وتتجنب ثورات عنقودية تلحق بها. وفاجأت الانتفاضة الملك حسين الذي كان يحاول خلال الثمانينات أن يتصدر المشهد التفاوضي، وأن تكون القضية تحت مظلته، وحاول ذلك مع المنظمة من خلال مبدأ الشراكة السياسية، وتماشى أيضا مع "إسرائيل" في محاولة إيجاد قيادات بديلة للتفاوض معها.

وبالطبع، كانت منظمة التحرير الفلسطينية من بين تلك القوى التي ارتبكت وفاجأتها الانتفاضة، حيث كان المجلس الوطني الفلسطيني قد عقد دورته الثامنة عشر في الجزائر (الدورة الثامنة عشر) في نيسان من العام 1987، أي قبل أشهر من انطلاق الانتفاضة، يتحدث فيها عن الحلول السلمية عبر المؤتمر الدولي (كما ذُكر أعلاه). وأمام هبات الناس وصرخاتهم، خشيت المنظمة أن تفلت الأمور من يدها، وخصوصا بعدما أبرزت الانتفاضة تلقائيا مجموعة من القيادات الميدانية داخل فلسطين، وتزامن ذلك مع انطلاق حركة المقاومة الإسلامية –حماس، وبروز حركة الجهاد الإسلامي، واشتعال الثائرين بدافع حب الاستشهاد، مما أبرز العمل المقاوم تحت شعار الإسلام.

ولم تتأخر المنظمة عن ركوب الموجة، وبادرت باستغلال ذلك الزخم الشعبي، وقفزت فوق الشعب، واحتضنت الانتفاضة وسخّرتها كرافعة سياسية قبل أن تتجاوزها. ومع ذلك، لم تخجل قيادات المنظمة من متابعة اللهث نحو الحلول السلمية (التي تبلورت كرؤية ثابتة للمنظمة)، حتى في أجواء الانتفاضة الثائرة، حيث دعا بسام أبو شريف -المقرب من ياسر عرفات- في رسالة نشرها في حزيران 1988 إلى السلام والتعايش مع "إسرائيل" (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية).  وتمكنت المنظمة من اتخاذ الانتفاضة أداة لترسّخ أنها "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، واستغلتها للضغط نحو الدفع لعقد المؤتمر الدولي للسلام، الذي كان يتبلور لدى القوى الدولية بإشراك المنظمة في المفاوضات.

وفي سياق الاستغلال السياسي، حركت أمريكا وسائل الإعلام لإبراز وحشية الجيش "الإسرائيلي" ضد المنتفضين من أجل الضغط عليها للقبول بالسلام، ثم تحركت سياسيا من خلال وزير خارجيتها شولتز، الذي كرر زياراته المكوكية للمنطقة وزار القدس وعمان ودمشق والقاهرة والرياض، ضمن حراك سياسي متجدد. وطفت على السطح من جديد مبادرة شولتز، كتحريك لمشروع ريغان، الذي انبثق مطلع الثمانيات إثر ترحيل المنظمة عن بيروت، وقامت فكرته على إيجاد كيان فلسطيني متحد مع الأردن، وحاول شولتز وضع "إسرائيل" أمام منظمة التحرير لدفعها للتفاوض معها.

ولكن تحركات شولتز لم تفضي لأي تغيير في الموقف الإسرائيلي، بل إن تحركات أمريكا السياسية وقرارها مباشرة الحوار مع المنظمة، دفع ائتلاف الليكود وحزب العمل نحو الاتفاق على إعادة تأليف حكومة الوحدة الوطنية والعمل تحت رئاسة الليكود، ليكون في واجهة التصدي حسب رأيه الأكثر صلابة وممانعة أمام الحلول السلمية، حيث يرفض مبدأ الانسحاب رفضا باتا (إضافة لرفض التفاوض مع المنظمة كقاسم مشترك مع حزب العمل)، بل تصاعدت لديه نبرة الحديث عن الأردن كوطن (بديل) للفلسطينيين. وزادت "إسرائيل" عنجهية وإجراما، فأقدمت في نيسان 1988 على اغتيال قائد العمليات العسكرية، الزعيم الفلسطيني "أبو جهاد"، رحمه الله، حيث اخترقت جسده الفدائي رصاصات "الموساد الإسرائيلي" في منزلة في تونس، حيث كان المقر الرئيس لمنظمة التحرير.

ورغم أجواء الانتفاضة الكفاحية ورغم عدوانية الكيان اليهودي الوحشية، ظل خطاب الأنظمة العربية مستخذيا، إذ طالب مؤتمر القمة العربية في الجزائر في حزيران 1988 (في غضون شهرين من جريمة اغتيال "أبو جهاد") "بعقد المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط تحت إشراف الأمم المتحدة وعلى قاعدة الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة"، وضلل المؤتمر الشعوب بالحديث عن تقديم الدعم للانتفاضة (تاريخ القمم العربية).

وبعد ما يقرب من سنة على انطلاق الانتفاضة انعقد المجلس الوطني في الجزائر من جديد في تشرين الثاني 1988، لتجدد المنظمة تأكيدها على الانبطاح نحو الاعتراف بالاحتلال، حيث "أكد عزم منظمة التحرير الفلسطينية على الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي".  وبدل أن يتوعد المجلس الوطني برد قوي على مقتل رفيق الدرب "أبو جهاد"، وبدل أن يستلهم نفس الثورة من الشعب، وبدل التباحث في ترتيبات الانتقام من رؤوس "إسرائيل"، أبدى المجلس استعداده الكامل لحفظ أمن الاحتلال ضمن الحل السياسي الذي يلهث حوله، حيث نصت مقررات المجلس على "ترتيبات الأمن والسلام لكل دول المنطقة". وأكّد المجلس الوطني على "ضرورة انعقاد المؤتمر الدولي الفعال الخاص بقضية الشرق الأوسط" (الدورة التاسعة عشر). وهكذا عمل المجلس على توجيه الانتفاضة نحو دولة في حدود عام 1967 (كأقصى تطلعات)، وتكون ذات مهمة أمنية تحفظ أمن الاحتلال المجرم. مما يعتبر إشارة مبكرة للمشروع الأمني الذي كانت المنظمة تُضمره لأهل فلسطين حتى وهم يهبون في وجه الاحتلال (وهو ما ترجمته على الأرض –حاليا- تحت مسمى المشروع الوطني).

وفي مشهد مسرحي لاستثارة مشاعر الفلسطينيين، وعلى غرار فقاعات البطولة الزائفة التي ظل ياسر عرفات يطلقها في فضاء القضية، أعلن عرفات في تلك الدورة عن قيام "الدولة الفلسطينية" على أساس القرارات الدولية، وبيّن المجلس الوطني "أن العلاقة المستقبلية بين دولتي الأردن وفلسطين ستقوم على أسس كونفدرالية"، وذلك في محاولة توفيقية بين الرؤى الدولية والعربية المتآمرة على قضية فلسطين. وباركت أمريكا قرارات المجلس الوطني إذ اعتبرتها بادرة إيجابي. ومن الجدير ذكره أنه خلال أشهر من ذلك الإعلان تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية (الورقية) من قبل ما يقرب من 120 دولة، مما جسد زخما جديدا لحل الدولتين (الأمريكي) (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية).

وعادت مخاوف الملك حسين للظهور من جديد، وأحس بالخطر على كيان الأردن وعلى عرشه من رؤى حزب الليكود ومن خطر التهجير، وظلّت الرؤية لكيان "فلسطيني أردني مشترك" مبعث قلق لديه، بعدما كانت وسيلة للهيمنة على مشهد القضية (منتصف الثمانينات)، فأعلن الملك حسين في تشرين الثاني 1988 "فك الارتباط" مع الضفة الغربية، وتخلّى الأردن بذلك الإعلان عن العلاقة الإدارية والقانونية معها، محاولا –في الوقت نفسه- عرقلة مبادرة شولتز المستند إلى فكرة الربط مع الأردن، ومستهدفا إحراج أمريكا دوليا (التسلسل الزمني لتاريخ فلسطين 1980-1995)، وكركبة تحركات المنظمة ولهثها خلف الحل من خلال المشروع الأمريكي.

وجدد ياسر عرفات تماشيه مع التوجهات الأمريكية للحل من خلال التوقيع على "وثيقة ستوكهولم" في 7/12/1988 معربا فيها عن اعتراف صريح بدولة "إسرائيل" والقبول بالقرارات الدولية ونبذ "الإرهاب" (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية)، ومن ثم التزم نفس العبارات التي حددتها أمريكا له، وضمّنها في خطابه في اجتماع الأمم المتحدة في جنيف في 14/12/1988، وأطلق في حينه ما عرف "بمبادر السلام الفلسطينية"، وعلى إثر ذلك أعلنت أمريكا فتح الحوار مع المنظمة، وبدأ بالفعل في تونس بعد يومين من خطاب عرفات المذكور مع سفير أمريكا فيها.

وعندما قام ياسر عرفات بما أطلق عليه –سُخفا- "هجوم السلام الفلسطيني"، رد شامير في أيار 1989 بما يسمى مشروع شامير للحكم الذاتي، وقد كان استنساخا لنصوص الشق الفلسطيني من اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، وركّز فيه على إجراء انتخابات في الضفة والقطاع (ما عدا القدس الشرقية) لاختيار ممثلين من خارج المنظمة للتفاوض حول إقامة حكم ذاتي في مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات، يتم بعدها الاتفاق على الوضع النهائي، وكان ذلك تأكيدا على رؤية حزب الليكود الرافضة للتخلي عن الأرض والتفاوض مع المنظمة (مشاريع التسوية السلمية للقضية الفلسطينية).

ولما جاء الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، تابع السير على نهج سلفه ريغان، ولكنّ بداية مرحلته تزامنت مع رئاسة شامير من حزب الليكود للحكومة "الإسرائيلية"، وهو الرافض للمؤتمر الدولي ولمبدأ التفاوض مع المنظمة ومبدأ الانسحاب لإقامة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن, بغض النظر عن طبيعة الكيان المنشود وعن ربطه باتحاد فدرالي أو كونفدرالي مع الأردن. وأخذت أمريكا تحاول ترتيب الأوراق العربية، ودفعت الأنظمة العربية لإعادة مصر إلى الجامعة العربية, ودفعت لانعقاد مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء في أيار 1989 بدعوة ومبادرة من الملك الحسن الثاني، وهو الذي كان دائم اللهث لدفع الحلول السلمية، وكان الحسن الثاني يقترح على الأنظمة العربية تفويض من يقنع "إسرائيل" بقبول المؤتمر الدولي، والتفاوض مع منظمة التحرير.

وقررت قمة الدار البيضاء تبنّي توجهات منظمة التحرير الفلسطينية نحو المسيرة السلمية، بعد تعبيد الطريق لها من خلال حوارها مع أمريكا، "وبارك المؤتمر قيام الدولة الفلسطينية المستقلة"، مع قرار إعادة مصر للجامعة العربية (دون أن تلغي مصر اتفاقية كامب ديفيد التي كان العرب يدّعون أنهم قاطعوا مصر لأجلها)، وجددوا التأكيد على انبطاحهم حسب ما أقرّت قمتهم في فاس عام 1982، ودعموا "مبادرة السلام الفلسطينية"، وجددوا التأييد لعقد المؤتمر الدولي للسلام.

وتحركت أوروبا لتوجد لها موطئ قدم في ساحة حل القضية، وعقدت مؤتمر مدريد لمجموعة الدول الأوروبية في حزيران 1989، وأوصى بيان المؤتمر منظمة التحرير "بالبدء بأي نوع من المفاوضات مع إسرائيل لحل القضية الفلسطينية" .وتجاوبت حركة فتح مع التوجيهات البريطانية -بعراقة التبعية البريطانية لقياداتها في تلك الفترة- فاعتمدت حركة فتح إستراتيجية المفاوضات والحل السلمي (التسلسل الزمني لتاريخ فلسطين 1980-1995)، وهو ما تترجم عمليا في المفاوضات السرية التي خاضتها رجالات فتح والمنظمة، كما يتناولها مقال لاحق ضمن هذه السلسلة.

وهكذا اختُتِم مشهد عقد الثمانينات من القرن الماضي بمفاجأة الانتفاضة التي انطلقت بعفوية شعبية وإخلاص من الثائرين بينما حاولت كل القوى المتآمرة على قضية فلسطين تسخيرها لخدمة غايتها التصفوية، وظلت القضية تدور في حراك سياسي غير مجد أمام تعنّت "إسرائيل"، ولعدم تمكّن أمريكا من ترويض شامير وحزب الليكود. وظلّت "إسرائيل" تختلق أجواء سياسية تساعدها في مقاومة الحراك نحو الحلول، وتستغل غضبات الفلسطينيين وهباتهم لتبرير مواقفها من العملية السلمية، فيما ظلت المنظمة تقدم التنازلات المتلاحقة، وترد على اغتيال "أبو جهاد" بالإعلان عن قابليتها لحماية أمن "إسرائيل" ضمن حل سياسي!