بسم الله الرحمن الرحيم

قبول الآخر فكرة غربية يراد بها تضليل المسلمين وإقصاء الإسلام عن الحكم

بقلم: علاء أبو صالح

تمهيد :

الصراع الفكري هو أبرز أشكال صراع الحضارات، واستخدامه يأخذ أساليب وصوراً مختلفة تبعاً لمتطلبات هذا الصراع وأحواله المستجدة. فقد يأخذ الصراع الفكري الحضاري شكل نقض الفكرة وتعريتها والإتيان ببديل لها أو شكل الترويج أو التضليل لفكرة بغض النظر عن صحتها، أو الدعاية والدعاية المضادة.

ويهدف كل من طرفي الصراع إلى ظهور فكره وحضارته على فكر وحضارة الآخر. والصراع الفكري قديم قدم الأفكار والحضارات.

مقدمة:

بقيت بلاد المسلمين طوال القرن الفائت -ولا زالت- ساحة خصبة للصراع الحضاري بالرغم من أن المسلمين بلا دولة، فخشية الكفار المستعمرين من عودة المسلمين لتسلم قيادة ركب العالم الحضاري مما سينهي حقبة تحكم الرأسمالية المجرمة في العالم، قد أجج لهيب هذا الصراع، فجعل الدول الاستعمارية تستميت في محاولةٍ لعرقلة مسيرة الأمة نحو تحقيق مشروعها الحضاري.

إلا أن الكفار الغربيين، وبسبب إفلاسهم الفكري وانكشاف عوار مبدئهم، لا يجرؤون على مجابهة أفكار الإسلام وجهاً لوجه، إذ أنهم يفقدون القدرة على إقامة الحجج على أفكارهم كونها أفكاراً فاسدة يمكن للعاقل أن يدرك فسادها وبطلانها دون عناء، كما أن الواقع ينطق بخطئها عبر أمثلة حسية صارخة تقطع حجة أو قول كل بليغ. لذا كان التضليل هو سلاحهم الحقيقي في عصرنا الراهن وكانت وسائل الإعلام والأحزاب الموالية لهم والمضبوعين بثقافتهم والمنتفعين المأجورين هم أدوات هذا التضليل.

في زمن الثورات

وفي زمن الثورات التي تشهدها البلاد الإسلامية، طفت على السطح العديد من هذه الأفكار المضللة في ساحة الصراع الفكري والسيطرة والنفوذ، حيث لم يكن همُّ المروجين لهذه الأفكار الغربية الغريبة عن الأمة سوى الإبقاءُ على هيمنة الحضارة الغربية على بلاد المسلمين وترسيخ أقدام المستعمرين، ضمن مخطط استعماري لإجهاض هذه الثورات والالتفاف عليها وإفراغها من مضمونها الحقيقي وهو التغيير الجذري.

فأصبحت الدولة المدنية والشراكة السياسية وقبول الآخر وعدم إقصائه والديمقراطية وغيرها هي المادة التي تلوكها ألسنة الإعلام وتروج لها فلول الأنظمة البائدة وكأنها البلسم الشافي وهي السم الزعاف.

كما يتعمد المروجون لهذه الأفكار والمفاهيم التغاضي عن كونها أفكاراً رأسمالية فيصفونها تضليلاً بالأفكار العالمية، كما يُغفلون إمعاناً في التضليل أن الأمة التي يخاطبونها هي أمة إسلامية يدين أهلها بدين الإسلام الذي يناقض الرأسمالية في عقيدتها وأنظمتها.

من هذه الأفكار التي طفت على الساحة السياسية ولا سيما في البلدان التي نجحت فيها الشعوب المنتفضة بالإطاحة برأس النظام، فكرة قبول الآخر.

ونحن في هذه الوقفة الوجيزة نمحص هذه الفكرة ونقف على معناها وهدف الترويج لها وبالتالي على مدى خطورتها على الأمة ومسعاها للتغيير.

فكرة قبول الآخر

التعريف والنشأة

الآخر هنا هو غيرك، غيرك في الفكر والاعتقاد ووجهة النظر، وقبوله هو الاعتراف به كما هو واحترام معتقده وفكره ووجهة نظره.

وتعتبر فكرة قبول الآخر إحدى قيم الليبرالية لدى الرأسمالية الغربية وأحد مكونات حقوق المواطنة لديهم.

انبثقت فكرة قبول الآخر من فكرة الحريات الرأسمالية والتعددية السياسية، فهي تقر بوجود طرف وطرف آخر، وليس معنى القبول هنا هو مجرد الاعتراف الواقعي، بمعنى مجرد تشخيص الواقع الذي يحوي الآراء والمذاهب المتعددة، بل القبول هنا يعني الإقرار والموافقة والرضى عن فكر الآخر كما هو، إذ يبنى على هذا القبول ضرورة المشاركة السياسية وإعطاء الآخر الحق في التنظير الفكري والترويج الإعلامي لأفكاره مهما كانت آراؤه مخالفة أو مصادمة لعقيدة الأمة.

ويسعى الداعون لهذه الفكرة إلى تبريرها بمسوغ واه مفاده أن الحقيقة نسبية غير مطلقة ولا يمكن الزعم ببطلان الآخر مهما كان رأيه ولو كان مجرد هرطقات أو هلوسات فكرية. يقول أحد منظري هذه الفكرة (إن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وإيديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين).

 

 

 الإسلام وقبول الآخر؟؟

إن فكرة قبول الآخر بالمعنى سالف الذكر، هي فكرة باطلة عقلاً فهي تفضي إلى نفي وجود الخطأ والصواب أو الحق والباطل أو اعتبار ذلك بلا قيمة، بينما العقل والواقع يقر بقطعية انقسام الأفكار والآراء والأعمال واقعياً ونظرياً إلى خطأ وصواب وحق وباطل.

وهي باطلة من ناحية شرعية؛ حيث أن الإسلام ونظمه هو الحق وما سواه باطل، والإسلام لا يحترم ولا يقر من ناحية عقدية وفكرية أية شرعة أخرى بالرغم من أنه لا يظلم أصحابها ولا يحرمهم حقوقهم الرعوية إذا عاشوا في كنفه.

وتفضي فكرة قبول الآخر إلى تبرير كل خطيئة –على فرض تسميتها خطيئة من هذا المنظور- بل تطالب بقبولها، كما تعتبر الخيانة السياسية والتبعية للغرب وجهة نظر يجب اشراك صاحبها في الحكم، وتعتبر محاربة الأمة في عقيدتها والتهجم والتهكم على شخص نبيها صلى الله عليه وسلم أو التشكيك فيما ورد في كتاب الله، ثقافة لها مبرراتها بل هي مفيدة.

إن الإسلام لا يقبل الآخر بالمعنى سالف الذكر، بل يصفه بالباطل ويصارعه فكريا وعقائدياً، ولا يقر بشرعة أخرى مهما كانت، يقول الله عز وجل (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) ويقول (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ويقول الرسول عليه السلام عندما شاهد عمر بن الخطاب يقرأ في صحيفة من التوراة "ألم آت بها بيضاء نقية والله لو أدركني أخي موسى ما وسعه إلا اتباعي".

وفي شأن الآراء والأحكام لم يترك الإسلام للمسلم خياراً في شؤونه بل ألزمه بتبني وتطبيق أحكامه ونظمه، مع قابلية الاختلاف الفقهي في الظني من الأحكام وفق ضوابط الاجتهاد الشرعية وهو شأن آخر غير موضوع قبول الآخر، يقول الله سبحانه (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).

أما عن طبيعة العلاقة بفكر الآخر ورأيه فقد اعتبره الإسلام صراعاً محصلته أن يُدحض الباطل بحق الإسلام وفكره وعقيدته، يقول الله عز وجل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)، كما أوجب على المسلمين أن يسعوا لإظهار الإسلام على الدين كله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا وفي ذلك مصادمة مع فكرة قبول الآخر المزعومة.

ويهمنا في هذا السياق أن نؤكد أن ظهور الإسلام وعدم اعتباره للأديان والمبادئ الأخرى لا يعني البتة إكراه الناس على اعتقاد الإسلام بل إن الإسلام شرع أحكاماً عادلة تعطي غير المسلمين حقوقهم وتتركهم وشأنهم في أمور عقائدهم وعبادتهم وأحوالهم الشخصية دون الإقرار بها. وتاريخ حفظ الخلافة لعهد الذمة لمختلف الأديان والملل وحسن معاملتهم واعتبارهم كبقية الرعية من حيث الحقوق والواجبات أمر ظاهر بيّن.

إن عدم اعتراف الإسلام بأية شرعة أخرى نابع من أن الإسلام يسعى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن جور الاديان إلى عدل الإسلام، فهو لا يقبل الآخر ويتركه سادراً في غيه وضلاله ضائعاً هائماً في هذه الحياة بل يسعى للارتقاء بالبشر وحمل الخير والهداية لهم.

واقع الفكرة في البلدان الغربية

يسعى المضللون المزيفون للحقائق إلى وصف عدم قبول الآخر وفق ما بيناه اعلاه بالقمع الفكري أو الحجر على عقول الناس، بينما الحقيقة أن من يؤمن بفكرة يراها حقاً يسعى لدحض غيرها وسيادتها وظهورها على بقية الأفكار. وواقع الشعوب والأمم وكيفية تعاملها مع ما تراه تهديداً لحضارتها ينفي فكرة قبول الآخر ويفندها. والدول الغربية صاحبة هذه الفكرة هي أول من يخالفها.

فواقع الدول الغربية التي تروج لفكرة قبول الآخر في بلدان المسلمين مثال صارخ على دحض هذه الفكرة، فقد رأينا سلوك تلك الدول فيما اعتبرته تهديداً لحضارتها الرأسمالية العفنة، فقد جرّمت لبس الحجاب واعتبرته طعناً في حضارتها وخطراً عليها، وحظرت بناء مآذن المساجد، وتجرّم في بعض بلدانها نشاط حزب التحرير وهو نشاط فكري سلمي يفضح زيف الرأسمالية ويظهر عوار حضارتها، فهي اذاً تستنفر قواها في سبيل الدفاع عما تراه مساساً في حضارتها وهويتها، ولا تقبل "الآخر" كما هو –كما تنص عليه فكرة قبول الآخر- بل تعيد تشكيله حتى يندمج في فكرها وحضارتها بحيث لا يبقى طرف وطرف آخر بل يصبح كلاهما واحدا. وهي تعتمد عقيدة سياسية واحدة في الحكم فهي لا تسمح لتيار اسلامي أن يطبق الإسلام في فرنسا مثلا على غرار مطالبتها المسلمين بالسماح للعلمانيين واليساريين بالحكم في بلدان المسلمين.

أما ما تزعمه تلك الدول من إشراك بعض المسلمين في العملية السياسية في البلدان الغربية فهي كذبة مفضوحة، وهي لا تتم إلا وفق الضوابط والمقاييس الغربية.

فالدول الغربية شاهد من أهلها على دحض فكرة قبول الآخر.

الترويج لفكرة قبول الآخر في بلدان المسلمين

في ظل ما ذكر من بطلان هذه الفكرة، وعدم واقعيتها، ومخالفة الدول الغربية لها، يبقى الترويج لها في بلدان المسلمين أمراً مشبوهاً تقف وراءه مآرب وغايات استعمارية.

فالترويج لفكرة قبول الآخر في أوساط المسلمين يراد بها استبعاد الإسلام عن الحكم ومحاولة طمس فكره الأصيل، فالدول الغربية المتحكمة إلى الآن في العملية السياسية في بلاد المسلمين، لا تسمح بملء إرادتها أن تصل جماعة إسلامية تريد تطبيق الإسلام تطبيقاً جذريا إنقلابياً إلى سدة الحكم، بالرغم من أن الشعوب في هذه البلدان شعوب تدين بالإسلام وكل فكر آخر غير الإسلام يعتبر فكراً دخيلاً عليها. وما حدث في انتخابات الجزائر عام 1991 وتهديد فرنسا باحتلالها كما احتلت أمريكا بنما مثال على ذلك.

إن غاية الترويج لفكرة قبول الآخر في بلدان المسلمين يراد منها إقصاء الإسلام عن الحكم وتبرير تحكّم العلمانيين الموالين للغرب في العملية السياسية، كما يراد لها تبرير انخراط الحركات الإسلامية في العملية السياسية وفق المقاسات الغربية واعتبار ذلك عاملاً في حفظ النسيج الاجتماعي والتعايش السلمي والتسامح، فهي اذاً فكرة مضللة، إذ توحي في ظاهرها أنها ترمي للمشاركة السياسية -على فساد هذا الطرح- بينما هي في حقيقتها تريد إقصاء الإسلام كلياً عن الحكم ولا تسمح سوى للحركات المنضبطة بالمقاييس الغربية بممارسة دور في لعبتهم السياسية.

أمثلة من المشهد السياسي الراهن

ولأخذ المثال على غاية الترويج لفكرة قبول الآخر، يمكننا أن نرصد المشهد السياسي في كل من تونس ومصر لنرى كيف أن مظلة قبول الآخر قادت الحركات الإسلامية التي نجحت في الانتخابات إلى التخلي عن تطبيق الإسلام حتى تصنف في مقياس الغرب بأنها معتدلة وتقبل الآخر وتقبل الشراكة السياسية، بل رأينا في تونس كيف قبلت حركة النهضة صاحبة الأغلبية البرلمانية تولي علماني لرئاسة الجمهورية، وكيف حرصت على التأكيد على مدنية الدولة التونسية وديمقراطيتها، مما دفع رئيس وزرائها للتصريح في منتدى دافوس بالقول ""لا أعتقد بأنه يجب أن يطلق على النظام الجديد اسم الإسلام السياسي. علينا أن نكون حذرين في اختيار المصطلحات. لقد شهدنا انتخابات حرة ونزيهة قادت إلى نشوء أنظمة ديمقراطية"". ومثلها فعلت حركة الإخوان في مصر، إذ قبلت بالدستور المصري ورأت أن لا ضير أن يتولى قبطي رئاسة الجمهورية إن نجح في الانتخابات بل عينت نائب أمين حزبها (الحرية والعدالة) قبطياً لتعطي تطبيقاً عملياً لفكرة قبول الآخر، حتى تنال شهادة القوى الاستعمارية لها بالاعتدال والوسطية!.

خاتمة

إن علو شأن الأمة وعزتها لا يكون بالرضوخ للقوى الاستعمارية أو الانضباط بمقاييسها في الحكم أو نيل شهادات الوسطية والاعتدال منها وهي صاحبة سجل إجرامي بحق المسلمين والبشرية وهي من تسعى لترسيخ واقع التبعية والمهانة في بلدان المسلمين، فعلو شأن الامة لا يكون سوى بتمسكها بدينها وعقيدتها وما انبثق عنها من أنظمة، وإن الدخن والضعف لم يخالجها حتى أدخلت الأفكار الغربية لحيز فكرها، وإن على المسلمين أن يعووا أن الترويج لفكرة قبول الآخر وأخواتها من المفاهيم الغربية هو استمرار لمرحلة التضليل وإبعاد لأحكام الإسلام عن سدة الحكم، لذا فواجب المسلمين في هذه المرحلة الدقيقة التشبث بالإسلام ونظامه وأحكامه، والذود عنه ورفض أي بديل أو فكر دخيل مهما كان حامله او المروج له، وليعلموا أن دعاة الديمقراطية والتعددية وقبول الآخر يهدفون لوضع العصا في عجلة الأمة التي اندفعت نحو التغيير الحقيقي. ففي الإسلام ونظامه الخلاص للمسلمين والعالم وبغير ذلك لن يكون سوى التبعية وفقدان الهوية والعيش تحت أقدام الرأسمالية.

13-02-2012