إعلام غربي يحلل ... وإعلام عربي يضلل !
الدكتور ماهر الجعبري
أمام قراءة التغيرات المرتقبة في الأمة يفترق الإعلام العربي عن الإعلام الغربي بشكل واضح، إذ تختلف الجهة التي يخاطبها كل منها. ولا شك أن لكليهما أجندة، وهو يحمل رسالة إعلامية للترويج للجهات السياسية التي تقف خلفه، بل إن إعلاما بلا أجندة أو رسالة أو توجّهات للتأثير في الرأي العام لا يُتصور وجوده حتى بعد التغيير المرتقب في الأمة في ظل هذه الثورات.
في هذا المقال وقفة تحليلية واعية أمام ما عرضه الإعلاميّ الأمريكيّ جلن بيك (Glenn Beck) على قناة فوكس نيوز الأمريكية، مع مقارنة لما تعرضه الفضائيات العربية، وهي تكشف الفرق بين التحليل الذي يستهدف التأثير وبين التضليل الذي تمارسه الفضائيات العربية في متابعتها للثورات التي تجتاح بلاد المسلمين.
في الحلقة قبل الأخيرة من برنامجه الذي قدمه على مدار خمس سنوات، عرض بيك بتاريخ 29-6-2011 قراءته السياسية-التاريخية للثورات التي تجتاح بلاد المسلمين بأسلوب شيق بالفعل، يحقق شعاره القائم على "مزج الترفيه بالتنوير"، وهو يبحث في التاريخ ليفهم حاضر الثورات وإلى أين وجهتها ؟ لأن التاريخ عنده هو "خلف كل الأحداث"، وهو الذي يمكّن من التكهن بالمستقبل.
وفي المقابل يتعامى الإعلام العربي عن التاريخ، ويقفز بسطحية إلى مستقبل منفصم عن تاريخ الأمة، ويروج له لعله يعطّل حركة التاريخ، ويؤخر تحقق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي وقف "جلن بيك" في برنامجه يتلوه بكل هدوء مترجما على شاشة خاصة في برنامجه، إلى أن وصل "ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
أليس غريبا أن يكون هذا الحديث النبوي حاضرا في قراءة "بيك"، ومغيبا في أية قراءة لأية فضائية عربية للثورات ؟
صحيح أن "بيك" هو من المحافظين، وأن منتقديه يقولون أنه يروج لنظرية المؤامرة وأنه يوظّف الخطاب الناري في تحليلاته، ولكن كُتبه الستة التي حققت أحسن المبيعات (ضمن نيويورك تايمز)، تكشف لمن لا يعرف "بيك" عمق تأثيره في المجتمع الأمريكي، ومدى انتشار أطروحاته. وليس المقام بالطبع مقام تقويم لقناة فوكس نيوز، ولا لمصداقيتها الإعلامية، فالوقفة ليست حول نقل أخبار بل حول كيفية قراءتها وحول زاوية تحليلها.
يؤكد "بيك" أن هذه الثورات مقدمة لانبثاق الخلافة حسب معطيات الواقع وحركة التاريخ وخط الزمن الممتد نحو المستقبل. وبعد شهر من الحلقة المذكورة، تحتشد الجماهير في مليونية تطبيق الشريعة في مصر، وتحرص العديد من الفضائيات وهي تتابع تلك المليونية على تجنّب تصوير المقاطع التي يرفرف فيها اللواء الأبيض الممهور بالشهادتين فوق جماهير ميدان التحرير، وتلك التي ترفرف فيها راية الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنها راية الخلافة، ولأن ذلك اللواء الأبيض ليس علما من أعلام سايكس بيكو.
وتستمر تلك الفضائيات العربية في وضع الكلام في أفواه ضيوفها، الذين يقبلون لعبة الاستخفاف بالناس، ويقبلون بعروض التضليل و"الاستحمار": ليستمر الحديث عن ثورات من أجل "دولة مدنية ديمقراطية"، بينما يكذبها "جلن بيك" في قراءته التحليلية ! ويعتبر الخلافة المرتقبة الموضوع الأهم الذي اختاره ليختم سلسلة حلقات برنامجه على مدار السنوات الخمس.
وفي جمعة تطبيق الشريعة، تحتشد الفضائيات العربية أمام مجموعة من الشباب "العلمانيين" تنادوا إلى مؤتمر صحفي على عجل، ليذكّروا أنهم يريدون "دولة مدنية ديمقراطية"، في معرض ردهم على صرخات حناجر الملايين المطالبين بدولة إسلامية في ميدان التحرير وفي الإسكندرية، مما يكشف من جديد –لمن أراد أن يمارس لعبة التضليل والتلاعب بالمصطلحات- أن تلك "الدولة المدنية الديمقراطية" التي يروج لها الإعلام العربي هي النقيض لمشروع الخلافة الذي يتأهب فجره للانبثاق.
ويختلف المشهد ويختلف العرض إذا توجّه الإعلام العربي لغير الناطقين بالعربية، كما تفعل قناة الجزيرة –مثلا- في تغطيتها لأخبار ذات الصلة بمشروع الخلافة، حيث تذكرها في نشرتها الإنجليزية وتعتّم عليها تماما في نشراتها العربية، بل حتى في شريطها الإخباري (بالعربية)، ومن ثم تذكر –مثلا- في شريطها الإخباري أن "عشرات احتشدوا في تونس ضد المطالبة بالشريعة"، بينما تتناسى عشرات الأولوف، بل مئات الألوف الذين احتشدوا في أندونيسيا وغيرها من بلاد المسلمين يصرخون "خلافة ... خلافة" في ذكرى هدمها خلال الشهر الماضي، لأن الجالسين في غرف التحرير-العربية- يفهمون الدرس جيدا.
وأيضا يفهم "جلن بيك" درسه جيدا، ويفهم أهمية التحذير من مشروع الخلافة، ويفهم أهمية كشف خطورة الأمر على أمريكا، ولو كان "بيك" يتقن العربية ويحفظ أشعارها، لأنشد:
سَيَذْكُرُني قومي إذا جَدَّ جِدُّهُمْ    وفي اللّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ
ولا أبالغ إذا توقعت أنه سيحظى بجائزة إعلامية مميزة من قبل قومه على قراءته التحليلية هذه، ولكن بعد فوات الأوان، ولن يحصل إعلاميونا إلا على آثار الصدمة عندما ينبثق الفجر بعد تلك الليلة وقد تمت قراءة البيان الأول لإعلان الخلافة، عندها سيدركون أنهم عملوا إعلاميين-موظفين، ولم يحملوا يوما "قضية" إعلامية. ولا تنفع مع غالبيتهم نصيحة باستدراك أمرهم قبل تلك الصدمة، لأنها صرخة في واد أو نفخة في رماد.
وستبقى قضية الخلافة والدعوة لها، وحزبها الذي انطلق لأجلها، مغيبة عن الإعلام العربي، قدر ما يستطيع عرّابوه الذين يصرفون الدراهم والدنانير، لأنه إعلام موجه للمسلمين، الذين يدركون أن تلك القضية هي قضيتهم المصيرية وهي سبيل عزتهم، والطريق الذي يخلصهم من الحكام المستبدين.
وسيجد الإعلام العربي أهمية في متابعة "استحقاق أيلول حول الدويلة الفلسطينية"، ولن يفطن إلى استحقاق رمضان أو استحقاق رجب حول دولة الخلافة، حتى تباغته رجال الخلافة !
وتبقى الرسالة الأهم أن يفهم الناس أن الوعي السياسي لا يحصل من مجرد متابعة الأحداث منفصلة، ولا من مجرد ربطها وتحليلها، إذ لا بد للمتابع والسياسي من فهم الشأن الجاري والتعامل معه من خلال نظرة "فكرية-سياسية"، تكون هي انتماءَه وثقافته وحضارته، وتبلور قراءته للأحداث، وتدفعه لتكوين المشاعر الدافعة حولها.
وشتان بين إعلام ينتمي للأمة لإيجاد الوعي السياسي وبين إعلام يحركّه الحكام للتضليل السياسي!
1-8-2011