بسم الله الرحمن الرحيم
تونس وتغيّر الوجوه
 بعد أن أذل الله طاغية تونس ولاذ بالفرار مذؤوماً مدحوراً في مشهد أبهج أهل تونس والأمة جمعاء، وكاد يشفي الله صدور قوم مؤمنين من ظلم نظامٍ أشِر، إلا أن فرحة الأمة لم تكتمل ونشوة أهل تونس بدحر الظالم لم تدم، فما كاد أن يولي الطاغية هارباً حتى أُعلن عن تشكيل حكومة جديدة برئاسة الوزير الأول (القديم الجديد) محمد الغنوشي وذلك بتاريخ 17/1/2011م، ذلك الوزير الذي كان الساعد الأيمن للطاغية الهارب «بن علي»، ثم بعد ذلك بقليل أحال الغنوشي الأمر إلى المجلس الدستوري، فأعلن هذا الأخير عن شغور منصب رئيس الجمهورية وتولية رئيس البرلمان «فؤاد المبزّع» رئاسة الجمهورية، ثم يعلن هذا المبزّع تكليف محمد الغنوشي لتشكيل حكومة أسماها «حكومة وحدة وطنية» هذه الحكومة في غالبيتها من حزب الطاغية الهارب (التجمع الدستوري)، وقد احتفظ ستة وزراء من حكومة «بن علي» بمناصبهم في الحكومة الجديدة، ومن هذه المناصب الوزارات السيادية وهي وزارة الدفاع والداخلية والمالية والخارجية، ثم ضَمَّ الغنّوشي إليها ثلاثةً من أحزاب المعارضة في وزاراتٍ هامشية لتزيين صورة الحكومة الجديدة المسماة «وحدة وطنية»، ثم للمبالغة في تضليل الناس أعلن الوزراء السابقون بمن فيهم محمد الغنوشي نفسه إستقالتهم من حزب التجمع الدستوري، حتى ينفوا عن أنفسهم التبعية للنظام السابق. ثم بتاريخ 28/1/2011م أعلن الغنوشي تشكيل حكومة جديدة ضمت 12 وزيرا جديدا وكلفت منهم شخصيات مستقلة بوزارات سيادية ومع ذلك بقي ثلاثة وزراء من حكومة النظام السابق وهم محمد الغنوشي الذي احتفظ بمنصب رئيس الوزراء، ومحمد الجويني الذي أُسندت إليه حقيبة التخطيط والتعاون الدولي وعفيف شلبي الذي أسندت إليه حقيبة الصناعة والتكنولوجيا.
وهكذا استطاع زبانية «بن علي» المحافظة على نفس النظام السابق بقيادة نفس المجرمين ولكن بمسميات جديدة وأشكال جديدة فهل اكتملت فرحة أهل تونس بزوال الطاغية ؟
لقد ولغ هؤلاء المجرمون في الدماء الزكية التي سفكوها طوال ثلاثين يوماً منذ بدأت انتفاضة الناس في 17/12/2010م، بعد أن ألجأ الجوعُ والفقرُ والمرضُ والبطالةُ، ناهيك عن الجورِ والظلم، ألجأ الشابَّ «البوعزيزي» وهو في مقتبل عمره إلى «الموت» بعد أن داس زبانيةُ النظام الجائر عربتَهُ التي كان يبيع عليها الخضار والتي لا يكاد دخْلها يسدُّ حاجة أهله! ثم تتابع تحرك الناس ضد النظام الجائر، وهم يطلبون العيشَ الآمن، تحت حكم الإسلام العادل، في بلد نَهَبَت السلطةُ ثروتَه وخيراتِه، فملكت القصور والدُّثور، وتركت عامة الناس في فقرٍ مُلجئٍ للقبور.
إن بطولاتِ أهل تونس ضاربةٌ جذورُها في عمق التاريخ منذ أكرمها الله سبحانه بالإسلام، فأصبحت من مناراته التي بها يُهتدى، وانطلقت منها شرارة الفتح لشمال إفريقيا والأندلس... وقد عُرِفت ببلد عُقبة الذي انطلق منها حاملاً الإسلام إلى شمالي إفريقيا حتى وصل شواطئ المحيط الأطلسي، فوقف أمام أمواجه الهادرة مخاطباً: «لو كنت أعلم أن وراءك أناساً لخضت عُبابك بسنابك خيلي فاتحاً!» هكذا هي تونس الخضراء، وهكذا كان أبناؤها، رجالاً مجاهدين «رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» (النور: 37).
إن الشقاء لم يدخل إلى تونس إلاّ بعد أن تمكن الكفار المستعمرون بزعامة فرنسا انذاك من احتلالها واقتطاعها من دولة الخلافة العثمانية سنة 1881م، فعاثت فيها الفساد والإفساد، وأخذتها بالقهر والبطش والطُّغيان... ومع ذلك فقد قاومها الأبطال المسلمون في تونس، واستشهد منهم الألوف، واستمروا يرصُّون الصفوف، وهم يحملون أرواحهم على راحتهم في سبيل الله، كلّما سمعوا هيعةً طاروا إليها، حتى نصرهم الله القوي العزيز، واضطُّرت فرنسا للخروج مهزومةً مدحورة منتصف القرن الماضي... ولكن، وقبل أن يهنأ أهلُ تونس بثمرة انتصارهم فيُعيدوا حُكمَ الإسلام إلى تونس، قام نفر من أهلها باعوا أنفسهم للإستعمار، فاستبدلوا بريطانيا بفرنسا، فحكمها «بورقيبة» و «بن علي» اللذين أذاقا الناس الأمرَّيْن! وأصبحت تونس مغنماً لجشع السلطة المحلي، ومسرحاً للصراع الدولي، وبخاصةٍ بعد أن أطلّت أمريكا برأسها «تحاول» في تونس اقتفاء أثر أوروبا العجوز!
إنّ هروب طاغية تونس أمام حشود الجماهير الغاضبة لهو مؤشر على حيوية الأمة، بل إنه مبعث لإعادة الثقة في قدرة الأمة على التغيير، بل إنها قادرة على أن تدوس أولئك الطغاة إن هي عزمت أمرها، ولكن الدرس المطلوب تعلمه من تجربة تونس هو أن الأمة عليها أن تدرك ماذا تريد من التغيير وأي شكل للتغيير هي بحاجة إليه؟ ولا شك أنّ المسؤولية في ذلك تقع على عاتق المفكرين والعلماء والأحزاب الذين يحملون لواء التغيير، وأنّ على هؤلاء العلماء والأحزاب أن يقفوا في صف الأمة ضدّ تلك الأنظمة العميلة المجرمة، قال عليه السلام : «اعيذك بالله يا كعب بن عُجْرَة: من أُمَراءَ يكونونَ من بعدي، فمن غشي أبوابها فصّدقهم في كَذِبِهم وأعَانَهُم عَلى ظُلمِهم فليس منّي ولستُ منهُ، ولا يرِدُ عليَّ الحوضَ» (سنن الترمذي).
وإنّ ما حدث في تونس يجب أن يكون درساً لأولئك الذين وقفوا في صف الحكام ودافعوا عنهم حتى إذا سقط طاغية تونس راحوا يكيلون عليه اللعنات وبقوا يسبحون بحمد الطواغيت الذين ما زالوا في منصبهم ظناً منهم أنّ الأمة يمكن تضليلها وخداعها بمعسول الكلام مع أن المصطفى عليه السلام قد كشف سريرتهم فقال: «من بدا فقد جفا، ومن تتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا إلا ازداد من الله بعدًا» (أخرجه أبو داود، والبيهقي). وأخرج العسكري عن عليّ بن إبي طالب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الفقهاء أمناء الرسل، ما لم يدخلوا في الدنيا، و يتبعوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم».
نعم إن الدرس المطلوب وعيه هو أن الأمة بحاجة إلى تغيير حقيقي، يغير حياتها كلياً ليرفعها من الدرك الأسفل بين الأمم وإعادتها إلى مكانتها العليا، راعياً وقائداً للبشرية جمعاء كما كانت في سابق عهدها.
ليست الأمة بحاجة إلى تغيير وجه «بن علي» بوجه الغنوشي، فكلاهما مصنوع من نفس المعدن، ولا هي بحاجة إلى تبديل عميل فرنسي بآخر بريطاني أو أمريكي أو العكس، إنّ الأمة بحاجة إلى أن تنعتق كلياً من ربقة الغرب المجرم، إنها بحاجة إلى نظام آخر غير تلك المستوردة من الغرب، تلك الأنظمة التي انتهت مدة صلاحيتها من أول يوم صُنعت فيه، تلك الأنظمة التي لا تصلح للإستهلاك البشري ولا حتى الحيواني فقد أهلكت الحرث والنسل.
نعم، إنّ الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى العودة إلى حكم ربّها، بإقامة دولة الإسلام الحق، لا دولةً قومية ترفع راية الإسلام وتطبّق بعضاً من أحكام الإسلام على من تشاء من رعيتها، ولا دولةً رأسمالية تلبس قناع الإسلام وهي منه براء، ولا دولةً وطنية تسمي دين الدولة الإسلام وهي للمسلمين ألدّ الخصام! إننا بحاجة إلى دولة تحكم بالإسلام في جميع شؤون الحياة، تقيم الحدود على جميع رعاياها بالسواء، دولة عزيزة تنزع الغرب من بلاد المسلمين لا دولاً ذليلة تستجدي الرحمة من أسيادها في الغرب، نريد دولةً تحمي ثغور الإسلام، تردّ ما استلب من ديار المسلمين إلى حظيرة الإسلام، تحمي أرواح وأعراض المسلمين، تردّ الصاع صاعين لمن اعتدى عليهم وتعيد الحق لأهله، تقيم العدل في الأرض، وتحمل الإسلام إلى غيرها من الأمم. تلك هي الدولة التي نريد، وإن أمرها لقريب، قال تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (القصص: 5).
 
مقال منقول عن:  المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير