بسم الله الرحمن الرحيم
الخليفة محمد الفاتـح - صاحب الأفكار وفاتح القسطنطينية ح3
 الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأتم تسليم
مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير نحييكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في الحلقة السابقة ذكرنا استعدادات السلطان محمد الفاتح لفتح القسطنطينية من عقد معاهدات وبناء قلعة رومللي وتحصينها لتكون المنطلق لفتح القسطنطينية وحصارها، كما لا ننسى صناعة المدافع العملاقة التي استخدمها لفتح القسطنطينية فقد كانت المدافع تعمل عملها ليلاً ونهاراً، وكانت تكبيرات المسلمين المدوية، تحدث في نفوس البيزنطيين من الرعب أكثر مما تحدثه المدافع، إلا أن هناك ثغرة بقيت في الحصار، كانت تأتي منها الإمدادات، وهي القرن الذهبي، الذي حاول الأسطول العثماني الدخول إليه مرات عدة، ولكن السلاسل الحديدية الضخمة التي كانت تقفل مدخله حالت دون ذلك.
سفن الفاتح في الصحراء:
قرر محمد الفاتح دخول القرن الذهبي بأسطوله مهما كلف الأمر، لأن ذلك يعني أن تصبح القسطنطينية في حصار خانق، فتفتق ذهنه وعبقريته عن معجزة عسكرية لم يسبق إليها أحد قبله، كانت خطته أن يرفع عدداً من سفنه من مرساها في "بشكطاش" في البوسفور إلى البر، ثم ينـزلها إلى القرن الذهبي بعيداً عن مدخله المغلق بالسلاسل، والمحمي بالأسطول البيزنطي، وكان يعلم أن أضعف نقطة في الأسوار، هي تلك الواقعة على القرن الذهبي.
ولم تكن أرضاً ممهدة، بل كانت وهاداً وتلالاً، فأمر الفاتح بتسويتها، وأمر بإحضار الألواح الخشبية فرصفت على الأرض، ودهنت بالزيت حتى يسهل انزلاق السفن عليها، وقام الجيش الإسلامي ورجاله الأشداء، يرفع السفن من البوسفور، وجرها هذه المسافة الطويلة، وثم إنزالها في نقطة آمنة في القرن الذهبي، وقد تم ذلك كله في ليلة واحدة، وما إن بزغ نور الفجر حتى كانت أعلام الفاتح ترفرف على اثنتين وسبعين سفينة في القرن الذهبي، يملؤها الجند مدججين بالسلاح، مكبرين مستبشرين بنصر الله، ولما رأى البيزنطيون ذلك صعقوا، وانحطت روحهم المعنوية، وحاولوا مهاجمة الأسطول العثماني فارتدوا خاسرين مدحورين. يروي أحد الشهود النصارى واسمه "نيقولو باربارو" وكان يعمل طبيباً على ظهر إحدى سفن البندقية المشاركة في الدفاع عن المدينة، أن المسلمين تصدوا للهجوم البيزنطي ببسالة منقطعة النظير، وقصدوا الهجوم وأغرقوا عدداً من السفن البيزنطية، فأصبحت لهم السيادة في القرن الذهبي.
ويروي أحد المؤرخين عن نقل الأسطول عن طريق البر فيقول «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحول الأرض إلى بحار، وتعبر سفنه قمم الجبال، بدلاً من الأمواج، لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر.
زاد الحصار على المدينة براً وبحراً، وكانت مدافعه تدكها ليلاً ونهاراً، وصيحات الجنود (الله أكبر، الله أكبر) تحطم روحهم المعنوية، خطب افاتح في الجيش، وأمر جنوده بالتقرب إلى الله تعالى بالطاعات والصلاة والدعاء وإخلاص النية، وحثهم على الصبر والتضحية، وقام هو بنفسه باستطلاع الأسوار، وحدد مواقع معينة لتركيز القصف عليها. وفي اليوم التالي ، اشتد القصف المدفعي، وارتفعت التكبيرات مدوية من حناجر المجاهدين، وكان الفاتح يمر على الجنود بنفسه، ويحثهم على الجهاد، ويبشرهم بقرب النصر، وكان العلماء لا يفترون عن التجوال بين الجنود، يقرؤون عليهم الآيات التي تحث على القتال في سبيل الله، ويذكرونهم بفضل الشهداء، وعظيم ثوابهم عند الله.
جلس محمد الفاتح مع كبار القادة ، وخطب فيهم خطبة مؤثرة، وذكرهم فيها حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن فتح القسطنطينية، ودعا فيه مخلصاً أن يكون هو وجنوده أهل هذا الشرف، ومن ضمن ما قاله في خطبته: «أبلغوا أبناءنا العساكر فرداً فرداً، أن النصر العظيم سيزيد الإسلام قدراً وشرفاً، فيجب على كل جندي أن يجعل تعاليم الشريعة الغراء نصب عينيه، فلا يصدر عن أحد منهم ما يخالف ذلك، وليتجنبوا الكنائس والأديرة، ولا يقتلوا طفلاً ولا شيخاً ولا امرأةً ولا راهباً في صومعته، وليحسنوا معاملة القيصر إن أسروه.
وفي صبيحة يوم المعركة أمر محمد الفاتح جنوده فصلوا "الفجر" ودعوا الله مخلصين، وبدأ الهجوم مع صيحات التكبير عقب الانتهاء من الصلاة مباشرة، وبدأ الهجوم موجة تلو أخرى، حتى أرهق المدافعين، وتمكن المسلمون من اعتلاء الأسوار، والاستيلاء على الأبراج المدافعة في منطقة "باب أدرنة" ورفعت عليها رايات المسلمين، وقتل الإمبراطور قسطنطين، ونزل خبر مصرعه على البيزنطيين كالصاعقة، فانهارت معنوياتهم، وبدأوا يهربون إلى بيوتهم يتبعهم جند الإسلام مكبرين، وما حان وقت الظهر إلا والفاتح يتجول وسط عاصمة بيزنطة على ظهر جواده، يحف به جيشه الظاهر مكبرين مهللين، يهنئون السلطان ويهنئهم، وهو يقول «الحمد لله، ليرحم الله الشهداء، ويمنح المجاهدين الشرف والمجد، ولأمتنا الإسلامية العظيمة الشرف والشكر» ثم ترجل عن جواده وسجد شاكراً لله تعالى على هذا النصر العظيم.
أمر "محمد الفاتح" بعد ذلك بنـزع الصلبان من كنيسة آيا صوفيا وتجصيص الصور، وصلى فيها صلاة الجمعة، وحولها بعد ذلك إلى مسجد تقام فيه الصلوات الخمس، وقد بعث إليه بابا روما يتهدده على تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، فرد عليه الفاتح بقوله: «لقد شرفت آيا صوفيا بأن حولتها إلى مسجد، أما إن مكنني الله تعالى، فسأحول مكانك الذي تقف فيه، إلى مربط لخيولي.
بعد هذا الفتح العظيم، أرسل الفاتح رسائل البشرى إلى أقطار الدولة الإسلامية في آسيا وأفريقيا، فأرسل برسائل إلى فارس، والهند، ومصر، والحجاز، فعمت الفرحة هذه الأقطار، فقد تحققت بشرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأصبح الحلم حقيقة، فنودي بالزينة في مدائن المسلمين، ورفعت أعلام الفاتح، ودعي له على المنابر، ونظم فيه الشعراء شعراً، ومن أحسن ما قيل في هذه المناسبة:
الله أكبر هذا النصر والظفر *** هذا هو الفتح لا ما يزعم البشر
إن مما يجدر ذكره في هذا المقام، أن الفاتح، كان شاعراً باللغة التركية، ويقول في قصيدة له:
حماسي: بذل الجهد لخدمة ديني دين الله.
عزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي جند الله.
وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر، على الفوز بلطف الله.
وجهادي: بالنفس وبالمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.
وأشواقي: الغزو مئات الآلاف من المرات في سبيل الله.
ورجائي: في نصر الله، وسمو الدولة على أعداء الله
ما بعد الفتح
بعد إتمام النصر الذي حققه محمد الثاني وهو لا يزال شابًا لم يتجاوز الخامسة والعشرين -وكان هذا من آيات نبوغه العسكري المبكر - اتجه إلى استكمال الفتوحات في بلاد البلقان، ففتح بلاد الصرب سنة ، وبلاد المورة ، وبلاد الأفلاق والبغدان (رومانيا) ، وألبانيا ، وبلاد البوسنة والهرسك ،ودخل في حرب مع المجر سنة (881هـ*1476م)، كما اتجهت أنظاره إلى آسيا الصغرى ففتح طرابزون.
كان من بين أهداف محمد الفاتح أن يفتح روما، وأن يجمع فخارًا جديدًا إلى جانب فتحة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، ولكي يحقق هذا الأمل الطموح كان عليه أن يفتح إيطاليا، فأعدَّ لذلك عدته، وجهّز أسطولاً عظيمًا، تمكّن من إنزال قواته وعدد كبير من مدافعه بالقرب من مدينة "أوترانت"، ونجحت تلك القوات في الاستيلاء على قلعتها، وذلك في (جمادى الأولى 885هـ* يوليو 1480م.
وعزم محمد الفاتح على أن يتخذ من تلك المدينة قاعدة يزحف منها شمالاً في شبه جزيرة إيطاليا، حتى يصل إلى روما، لكن المنيّة وافته في (4 من ربيع الأول 886هـ*3 من مايو 1481م)، واُتهم أحد أطبائه بدس السم له في الطعام، وكان لموته دوي هائل في أوروبا، التي تنفست الصعداء حين علمت بوفاته، وأمر البابا أن تقام صلاة الشكر ثلاثة أيام ابتهاجًا بهذا النبأ.
وصية السلطان محمد الفاتح لإبنه
هذه وصية محمد الفاتح لإبنه وهو على فراش الموت والتي تعبر اصدق التعبير عن منهجه في الحياة وقيمه ومبادئه التي آمن بها والتي يتمنى من خلفائه من بعده أن يسيروا عليها: (ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً ، وابسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها وسع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين .وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم ، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فان الدين غايتنا ، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي ، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك.
انتفاضة أحفاد محمد الفاتح في العصر الحديث:
على مدار السنوات الماضية ظهر في قلب تركيا أناس يقولون أنهم "الأحفاد الحقيقيين للروح العثمانية الثائرة" وقاموا ونجد اليوم أحفاد السلطان محمد الفاتح من حملة الدعوة في تركيا أمثال يلماز شيلك وشِيْغْدَام أَلبَاصَان وغيرهم كثير الذين يصدعون بالحق ويشدون الخطى نحو إقامة دولة الخلافة الراشدة التي ستقيم الدين وتوحد المسلمين وترجع الأمة إلى المكانة التي تليق بها.
هؤلاء هم من سيبقون يحملون لواء الإسلام يخلفون من سلفهم ، وقد خاب من قال أنه لا يمكن أن يوجد مثلهم ، لا والله بل إن الأتقياء الأنقياء موجودون ، وبإذن الله لراية الحق سيرفعون وهم بالحق يصدعون ..
رحم الله الخليفة العادل محمد الفاتح، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً، اللهم امنن على المسلمين بخليفة راشد، يقود الجيوش ويحمي الثغور، ويفتح الفتوح ومنها فتح روما، ويحرس الشريعة، يعز الله به الإسلام والمسلمين، ويذل به الكفار والمنافقين، جعل الله ذلك في العاجل القريب، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
16 من جمادي الثاني 1431
الموافق 2010/05/30م        
للمزيد من التفاصيل