بقلم المهندس باهر صالح
لقد بتنا نشهد في السنوات الأخيرة وبشكل متسارع تهاوي الحضارة الغربية بحرياتها التي لطالما تزينت بها الدول الغربية وحرصت على أن تضعها نياشين على صدرها، وفي مقدمة كلام مفكريها وقادتها، وجعلتها عنواناً لدولها. ولعل الامتحان والمحك الذي بدأ يتهاوى عنده صرح الحريات هو الإسلام وأفكاره.
إذ لم تطق الدول الغربية، بقادتها وسياسييها وحتى مفكريها وإعلامييها، أن تطبق الحريات التي تنادي بها صباح مساء عند أول تحدٍ قائم أو مرتقب حتى، بينها وبين الإسلام.
فهذه أمريكا حطمت كل الحقوق والحريات لما واجهت الإسلام في العراق وأفغانستان، فداست بقدميها أدنى حقوق الإنسان بحقه في الحصول على محاكمة عادلة فلم تطق أن تحاكم من تصفهم بالإرهابيين في محاكمها هي، لا محاكم غيرها، فألقت بهم في سجن غوانتنامو كأنهم خلق جديد لا تنطبق عليهم قوانين بقية البشر، وكذا ما فعلت في أبي غريب وباغرام وقلعة غانجي حينما سحقت البشر فضلاً عن حقوقهم، ولم تبق ما تحفظ به ماء وجهها أو تستر عورتها. وما تشريع قانون الإرهاب في أمريكا إلا صرحاً شاهداً على تآكل الحريات عند أول تصادم لها مع الإسلام.
وليس الأمر في أوروبا بأحسن حالاً، ففرنسا التي تعتبر نفسها بلد الحريات، وصاحبة الثورة الفرنسية الشهيرة التي اعتبرت الدعوة للحريات أساساً لها، لم تقو على التمسك بأفكارها أمام الإسلام، رغم أنّها تعتبر الإسلام خصمها الحقيقي، فمنعت الحجاب على الرغم من أنّه يمثل أدنى حقوق الإنسان وحريته في اختيار اللباس بحسب الحرية الشخصية عندهم. وتعرقل بناء المساجد للمسلمين رغم أنّ المسجد يشكل أدنى حقوق الإنسان في حرية العبادة بحسب فكرهم. وقد وصل الأمر بعمدة فرنسي أن يقاضي سلسلة مطاعم "كويك" البلجيكية للوجبات السريعة بسبب قرارها تقديم منتجات ووجبات حلال حصرياً وبشكل كامل في 8 مطاعم تابعة للسلسلة في المدينة، وتحديداً في مناطق ذات كثافة سكانية إسلامية.
وحتى سويسرا التي اعتاد العالم الحديث رؤيتها وهي تتجنب الدخول في متاهات الصراع الدولي، والعراك السياسي، لم يسلم المسلمون فيها من التضييق، فلم تطق هي أيضاً وعلى مستوى شعبي حزبي أن تمنح المسلمين عشر معشار الحرية التي يتمتعون بها، فلاحقوا مآذن مساجد المسلمين.
وكذا الأمر في بريطانيا التي لم تتوان صحفها الشهيرة عن تأييد فرنسا في حملتها ضد البرقع والحجاب، فلم يخجل مفكروها وإعلاميوها من مناقضة أنفسهم بحربهم للحريات التي يتشدقون بها ليل نهار. وكذا الحكومة التي لم تتوان عن تطبيق قانون الإرهاب الذي لا يُبقي للمتهم كرامة أو حقوق، ويتيح للحكومة أن تبطش بمن تشاء وأينما تشاء وكيفما تشاء بذريعة الإرهاب.  
والحقيقة أنّ قائمة انتهاك الغرب للحريات التي ينادي بها تطول وتطول، من قبل الدول وقادتها، والسياسيين والمفكرين والإعلاميين، فالانتهاك لا ينحصر بالقادة والحكام، فالغرب يهدم حضارته بيديه، ويتناول حرياته بالتفتيت شيئاً فشيئاً، والسبب هو العجز والهزيمة التي مُني بها في مواجهة الإسلام المتنامي والمتعاظم في نفوس أهله والمنعكس على سلوكياتهم. ولولا أنّ الغرب قد وصل إلى حالة من الإفلاس والقصور عن المواجهة الحضارية والفكرية مع الإسلام لما عمد إلى هدم حضارته وقيمه بيديه.
والأهم من ذلك أنّ فيما يحدث دلالة كافية على "خرافة" الحريات التي نادى بها الغرب، فالفكرة التي يستحيل تطبيقها وتجسيدها في أرض الواقع لا يمكن أن تكون صالحة وصحيحة. فأن تكون الفكرة قابلة للتطبيق شرط أولي في صحة أو خطأ الفكرة.
ولعل مثال الشيوعية التي عجزت قوى الاتحاد السوفيتي وجبابرته عن تطبيقها أو المقاربة من تطبيقها، حتى ولو بالحديد والنار وسيول الدماء، شاهدٌ حديث على ذلك. فما أن انهار الاتحاد السوفيتي حتى سارع أهله بالتخلي عن فكرتهم وإلقائها خلف ظهورهم، بل والتنكر لها.
فما الذي يمنع أن يكون مصير الديمقراطية بحرياتها الأربع كمصير الشيوعية والاشتراكية؟ لا شيء.
ولو أنّ الغرب اكتفى بعجزه عن تطبيق فكرته ليصل إلى نتيجة مفادها ضرورة التخلي عن مبدئه لأراح نفسه من عناء التأويلات والترقيعات التي تثقل كاهله وكاهل أمته يوماً بعد يوم. ولولا خشية الإطالة لكان تناول الأزمة المالية الحالية المتنامية والمتفاقمة خير شاهد على سوء الترقيعات، ولكان تناول تهاوي الحياة الاجتماعية في المجتمعات الغربية وتحطمها شاهد عيان على فكرتنا.
بتقديري، على الغرب وخاصة المفكرين فيه أن يعيدوا النظر في مبدئهم وحضارتهم، فلا داعي للمكابرة، ولا داعي أن يحملوا أنفسهم وأهليهم وشعوبهم إلى التهلكة تجنباً للاعتراف بالفشل. فالشعور بالمسئولية يحتم عليهم البحث عن سُبل النجاة لأمتهم. وليسلموا بأنّه كما انهارت الحضارة اليونانية والفلسفة الهندية والحضارة الرومانية والفارسية والشيوعية، من الطبيعي أن تنهار الحضارة الغربية.
وعليهم أنّ يتقبلوا فكرة صعود الإسلام من جديد، خاصة وأن حضارة الإسلام رغم انهيار دولتها لم تنهار منذ أن وُجدت منذ أربعة عشر قرناً، فنجاح حضارة الإسلام في البقاء وفي اختبار إمكانية التطبيق وحسنه وطيب أثره حريٌ أن يشكل ذلك محفزاً لدى مفكري الغرب في التفكير بشكل جدي باستبدال الحضارة الإسلامية مكان حضارتهم الغربية المتآكلة.
ولكن هذا يحتاج إلى شعور صادق وإرادة مخلصة من هؤلاء المفكرين والساسة لتخليص شعوبهم من ضنك العيش وفشل التجربة، وهذا ما لا أظنه موجوداً وخاصة في ظل تعارض ذلك مع مصالحهم الشخصية ورغباتهم الأنانية التي اعتادوا عليها والتي هي جزء من مبدئهم الفردي. ولعل القارئ يجد في هذا الرابط ما يغني عن الشرح.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
28/2/2010