الدكتور ماهر الجعبري: عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 
تحت شعار "رسم ملامح المرحلة المقبلة في العلاقات بين أمريكا والعالم الإسلامي" انعقدت في الدوحة الدورة السابعة لمنتدى أمريكا والعالم والإسلامي، وسادت جلسات المنتدى دعوات لرفض فكرة صراع الحضارات، وضرورة مواجهة التطرف، والحث على حوار الأديان والثقافات، وعلى جسر الهوة بين أمريكا والعالم الإسلامي، من أجل إنهاء الصراع، على قاعدة: أمريكا والعالم الإسلامي لا يقصي أحدهما الآخر ولا يحتاجان إلى التنافس.
 
إن القراءة الموضوعية لمشهد العلاقة بين أمريكا والأمة الإسلامية تبرز أن أمريكا تعمل في الحقيقة على إقصاء الإسلام السياسي ومشروعه الحضاري لأنه لا تستطيع أن تنافسه مبدئيا، وأن هنالك صراعا مريرا يتجسد على صعد مختلفة: فهو عسكري، كما يبرز اليوم بوضوح في أفغانستان بعدما قرر أوباما إرسال ثلاثين ألف قاتل مأجور لقتل المسلمين هناك، وهو سياسي في كل مشروع تعمل أمريكا على تمريره على المسلمين، كما يبرز بوضوح في مشروع حل الدولتين لتصفية القضية الفلسطينية، وهو أيضا صراع فكري ثقافي في كل برنامج تموّله وكالات التنمية الأمريكية وبرامجها الأخرى، التي تهدف إلى حرف المسلمين عن ثقافتهم، وإلى تحميلهم الرأسمالية ومقاييسها كوجهة نظر في الحياة، في مواجهة مشروع الأمة الحضاري الذي يهدف إلى تغيير وجه الأرض نحو تحقيق العدل. والذي ينكر هذا الصراع على أشكاله المختلفة هو كالنعامة التي تدفن رأسها بالرمل لتجنّب الخطر الداهم، ولذلك لا تجد سياسيا أو مفكرا واعيا –بغض النظر عن دينه وثقافته- ينكر هذا الصراع وحتمية المواجهة.
 
ورغم وضوح هذا الصدام الحضاري، تصدى رئيس الوزراء التركي أردوغان (الذي يرفع شعار الإسلام!) للتحذير من هذا الصراع في كلمته في المنتدى، حيث اعتبر أن "الصراعات بين الثقافات والحضارات خطرا يهدد العالم" كما نقلت صحيفة الشرق القطرية (14/2/2010).
 
وفي هذا السياق، من اللافت أن مقالا للمفكر المصري رفيق حبيب نشره موقع أخبار العالم قبل يومين (12/2/2010) ينسف جلسات المؤتمر من أساسها، حيث أجاد حبيب في تصوير حالة النزال بين المشروع الحضاري الإسلامي ومشروع العولمة الرأسمالية في مقاله بعنوان: "الإسلام الجديد ... مشروع بلا خلافة"، يقول فيه "في قلب المعركة بين العولمة كمشروع غربي، والمشروع الحضاري الإسلامي، نجد مسألة الخلافة الإسلامية في مرمى النيران. فهي الحاضر الغائب في كل معارك الغرب مع الحركة الإسلامية، وفي كل معارك العلمانية مع المشروع الإسلامي، وأيضا في معارك النخب الحاكمة".
 
وبعيدا عن أجواء المنتدى الأمريكي، يحدد حبيب ملامح العلاقة التي تريدها أمريكا مع العالم الإسلامي في قوله إن "الغرب يبحث عن إسلام يحمي الدولة القومية القطرية، ويمنع قيام دولة الوحدة الإسلامية، وهو إسلام مصنع". ومن ثم يتساءل: "ولكن أي إسلام هذا! إسلام بدون دولة إسلامية، ومشروع إسلامي بدون خلافة إسلامية، تلك هي المسألة، وجوهر الصراع مع الحضارة الغربية المهيمنة".
 
ومن اللافت أنه بينما يفشل من يدعي أنه وريث العثمانيين في فهم الموقف العالمي وأزمة الحضارات، ينجح من تعرفه موسوعة ويكيبيديا على أنه قبطي، ليؤكد ذلك أن مشروع الإسلام السياسي هو مشروع ثقافي للعالم وليس للمسلمين فقط. وأن من نصارى الشرق من هم مسلمون ثقافة، بينما من المسلمين من هم غربيون ثقافة. وهنا تكمن مسألة صراع حضاري بين الرأسمالية والإسلام كمشروعين متناقضين، وليست صراعا بين أتباع الديانات المختلفة، حيث يصطف في المشروع الغربي من يحمل الإسلام دينا، بينما يستشرف المشروع الإسلامي من لا يحمل الإسلام دينا.
 
إن هذه المقارنة تؤكد أن التباحث حول العلاقة الصدامية بين أمريكا والأمة الإسلامية، وحول رسم ملامحها المستقبلية، لا يمكن أن ينجح في جلسات المنتدى الذي يضم السياسيين الرسميين، الذين لا يمثلون ثقافة الأمة الإسلامية، وبالتالي فلا يمكن أن يعبّروا عمّا يدور في عقولها وعمّا يتحرك في صدورها. ومن هنا فإن ذلك الشعار المرفوع للمنتدى هو أكبر من المجتمعين، وممن خلفهم.
 
ولقد عبّرت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون عن طبيعة الصراع وصرّحت حول تخوّف أمريكا من نتائجه، عندما أعربت عن قلقها من العمل للخلافة في باكستان، وذلك على محطة جيو الباكستانية في 8/12/2009، وهو كلام لا يناسب جلسات المنتدى. ولذلك فأن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أكّد (حسب ما نقل موقع أخبار لبنان-12/2/2010) أنَّ أكثر ما يقلقه "ليس أفغانستان ولا العراق ولا أزمة الملف النووي الايراني، بل باكستان"، مضيفاً: "أعتقد أنَّه بلد كبير، ولديه أسلحة نووية يمكن نشرها، وفيه أقلية مهمة فعلاً من السكان المتطرفين".
 
وهؤلاء الذين تعتبرهم أمريكا متطرفين، والذين يحرّض المنتدى على مواجهتهم، سبق أن عرفتهم أمريكا على أنهم من يحملون ما سمته "عقيدة الكراهية"، ويرفضون الديمقراطية كنظام حياة، ويعملون لإقامة الخلافة.
 
ومن هنا أدرك الصحفي الأمريكي البارز جو شيا (Joe Shea) حتمية المصالحة مع دولة الخلافة، وذلك في  مقال له قبل شهر تقريبا بعنوان: "الحرب ضدَّ الخلافة"،  "The War Against The Caliphate" ، والذي نشرته مجلة التقرير الأمريكي (American Reporter) بتاريخ 19/1/2010. قال فيه "عليْنا أن نعرِف أنَّه في الغد سيواجه الغرب القوَّة الموحَّدة لدولة الخلافة الخامسة". ووجه شيا رسالة مفتوحة ضمن مقاله للرئيس الأمريكي قال فيها: "إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم، ولا بدَّ أن نضعَ حدًّا لهذا الصراع، وليس أمامنا إلاَّ أن ندخل في مفاوضات سلام مع الإسلام". وطالبه بأن يعترف "بأن توحيد بلاد الإسلام تحت إمرة قائد كارزمي أمر محتمل".
 
ووضح شيا تصوره للسيناريو الخاصّ بهذا التغيير المرتبط بعودة الخلافة حيث "ستفقد الحكومات القوميَّة في بلاد الشَّرق الأوسط شرعيَّتها الضَّعيفة"، ويقول "ستطْلب المجالس المنتخبة لدوْلة الخلافة حديثًا - الَّتي تسيطر على معظم أنْحاء البلاد - من كل مسلم: أن يضطلِع بدوره في الجهاد ضدَّنا، عندئذ تتغيَّر أوْضاعنا من قوَّات كانت تحْظى بشرف نسبي، إلى قوَّات أسيرة شرَك كبير للغاية، ويضيق عليها هذا الشرَك يومًا بعد يوم". ويضيف: "الحقيقة الجليَّة هي أنَّه لا يستطيع أي جيش في العالم، ولا أيَّة قوَّة عسكريَّة - مهما بلغت درجة تسليحها - أن تهزم فكرة".
 
هذان نموذجان إعلاميان يمثلان رؤية متقاربة حول طبيعة الصراع مع أمريكا، والذي يدور حول مشروع الخلافة كنقيض لمشروع العولمة الرأسمالية: أحدهما من المفكر المصري (القبطي)، والآخر من الصحفي الأمريكي الشهير. وهما يؤكدان أن ما يدور في ذلك المنتدى هو أشبه بالخزعبلات السياسية التي لا تمت بصلة لمستقبل العلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي في ظل الخلافة الوشيكة. وأن الذي يحدد تلك العلاقة هم أؤلئك الذين يستعدون لإمساك زمام الأمور، وهم لا شك لا يمكن أن يكونوا داخل قاعات ذلك المنتدى.
 
إن شيا يحاول أن يجنّب أمريكا مصيرها المحتوم أمام جيوش الخلافة، ولكنها محاولة لن تنجح، لأن أمريكا قد تشربت منطق العربدة منذ عقود، ولأن دولة الحلافة القادمة تصنّف أمريكا على أنها من "الدول المحاربة فعلا"، وهي التي لا يمكن لدولة الخلافة إلا أن تتخذ تجاهها حالة الحرب، وخصوصا بعدما أراقت دماء المسلمين وامتهنت كراماتهم في سجونها "الديمقراطية".
 
ولذلك حري بالكاتب شيا أن يفكر بمخرج آخر إن استطاع. وحري بأؤلئك المجتمعين في ذلك المنتدى أن يتوقفوا عن العبث الفكري، وعن التآمر السياسي فإن الخلافة القادمة لن تمنح أي منهم فرصة لتدارك أمره. وحري والمثقفين والإعلاميين أن يستعدوا لتلك اللحظة الفاصلة، والكيّس منهم من سلّف خيرا في دعم هذا المشروع ليكون في صفوف المؤيدين له، لا في صفوف أعدائه.