هبة الأقصى وبطولات غزة لبنة في مشروع الأمة لا مسمارا في "حل الدولتين"

 

 

في مشهد عابر للأمة، أي عابرا للحدود وليس عابرا في الحدوث، وعلى وقع أحداث الأقصى المباركة وما رافقها من بطولات غزة وهبة الداخل المحتل، بل وهبة الأمة جميعها، تمت إعادة الضبط لكثير من المسائل؛ فلقد أعيد للأذهان التصور الصحيح لقضية فلسطين بأنها قضية عقائدية وذلك عندما استثار الأقصى جموع المسلمين، ولقد أعيد تعريفها كذلك بأنها قضية الأمة الإسلامية وأنها أرض إسلامية محتلة تنتظر التحرير، وليست قضية وطنية قابلة للتقزيم وذلك عندما تحركت الأمة بمجموعها من أقصى أطرافها إلى قلب الوسط وهي متحفزة للتحرير، باستثناء حكامها.

 

كما أن تلك الأحداث كشفت الحجم الحقيقي لكيان يهود الغاصب وما هو عليه من جبن وهشاشة بالرغم مما يستتر به من إجرام، وقد انفضح أمره بالرغم مما يستره به الحكام العملاء من تضليل وتضخيم عوضا عن الحماية والحراسة، بل لقد ظهر للعالم إجرامه بعد أن كان قد أسس وجوده على مظلومية مزعومة وحق مزيف، فانكشف قبحه واسودت صورته وبدأ ينقلب ما استجداه من تعاطف الشعوب كرها وازدراء.

 

أمام هذا المشهد تولدت عند المسلمين رؤية جديدة بإمكانية تحرير فلسطين بما تعنيه كلمة التحرير من معنى، ووجدت لدى الأمة حالة طيبة أعادت ثقتها بنفسها وقد رأت الصدق والحقيقة في ما كان يطرحه المبدئيون من الوجوب الشرعي لتحرير فلسطين كلها ومبشرات التحرير، لقد وضعت إصبعها على ذلك وشاهدت بعينيها ما تعنيه قوة العقيدة وأثرها في الأحداث، وذلك في مقابل حالة اليأس التي عملت عليها طغم التضليل والتطبيع من الأنظمة الحاكمة المتخاذلة ومن خلفها الغرب المجرم طوال عشرات السنين، فإذا بجهودهم تنهار في لحظة وما أنفقوه من قبل قد انقلب عليهم حسرة وهم بإذن الله سيغلبون.

 

غير أن ما ينبغي الانتباه له هو أن أعداء الإسلام والمسلمين في الغرب الكافر وخاصة أمريكا قد برعوا في استثمار الأحداث حتى لو لم يكونوا صانعيها، واستغلالها لتصب في مصالحهم وتدعم مشاريعهم، ولقد ساعدهم في ذلك أمران:

 

الأمر الأول هو غياب قيادة الأمة الطبيعية المتمثلة في دولتها الإسلامية، ووجود قيادات إما أنها مرتبطة أو أنها غير مبدئية، تقبل السير في مشاريع الغرب والمساومات فيها. والأمر الثاني هو تغييب مشروع الأمة الحقيقي للنهضة والتحرير ومحاربته وتصويره على أنه خيالي مقابل طرح المشاريع الغربية وخططها الجاهزة، بحيث توجه الطاقات وتستغل الأحداث لصالح تلك المشاريع، إما رغبا بتصوير تلك المشاريع على أنها إنجازات وثمار للنضال، أو رهبا على اعتبار أن تلك المشاريع هي الممكنات الوحيدة والسبيل الوحيد لتجنب الدمار!

 

لقد برز أمر الاستثمار الخبيث هذا مؤخرا في أحداث الأقصى وحرب غزة عندما بدأت أمريكا، لحظة تصاعد الأحداث، في توجيه المنطقة نحو مشروعها حل الدولتين وضرورة العودة إلى المفاوضات، فكان أن أعادت إدارة بايدن الاتصالات مع السلطة الفلسطينية لإعادة الاعتبار لها، بالرغم من ازدراء الناس لها ازدراء شديدا، وكذلك بدأ الأشياع والأتباع من أدوات أمريكا بالتحرك على وقع هذه التصريحات، فاقترحت تركيا إدارة القدس من لجنة من الديانات الثلاث بما يذكّر بطرح القدس المدوّلة، وما قامت وتقوم به مصر من "الوساطة" بل والإعلان عن نيتها بالمساهمة في إعادة إعمار غزة وهي التي خنقتها بالحصار خلال السنوات الماضية، بل إن أمريكا نفسها قد تحدثت عن إعادة إعمار غزة، وما كل ذلك إلا لتمتد يد التخريب والعبث إلى غزة بمسمى "الإعمار"، وهكذا فإنهم يستغلون الأحداث بمحاولة البناء عليها ولو بطرح المهلكات، وإلا فما هو الخير المرجو من الملف على طاولة أمريكا أو إعادة الاعتبار لسلطة ميتة أو لإحياء مفاوضات سقيمة؟!

 

على أن أمريكا والغرب وأشياعهم من الحكام المتآمرين، وإن كانت لهم الآن هيمنة ونفوذ، ولهم القدرة على طرح المشاريع بما يملكونه من إمكانات مادية، إلا أن ما لا يستطيعون السيطرة عليه هو الحالة الطيبة التي حصلت في الأمة بفعل هبة الأقصى، حيث راكمت فيها وعيا وبعثت فيها حرارة وعبرت عن طاقة هائلة كامنة، ولا نحسب إلا أن هذه الحالة قد شكلت عندهم حالة دراسية عميقة ومؤشراً خطيراً يدل على قرب انفلات الأمور وإمكانية الإطاحة بكل البنية الاستعمارية، ولذلك فإنهم لن يدخروا جهدا في التخطيط للقضاء على هذه الحالة وضمان عدم تكرارها مستقبلا، ولعل أخطر ما يمكن أن يقوموا به في هذا الشأن هو تصفية قضية فلسطين لتكف عن كونها فتيل الاشتعال الذي يمكن أن يشعل المنطقة برمتها وذلك بكثير من المكر والتضليل.

 

لقد أضفت هبة الأقصى وما تخللها من بطولات غزة وهبة الداخل في فلسطين أثرا طيبا وزادت رصيدا إلى ما تراكم في وعي الأمة وشعورها، ولذلك كانت حدثا مهما يجب البناء عليه ليكون له ما بعده، وينبغي أن يكون لبنة في بناء مشروع الأمة، وذلك بتوجيه تلك الطاقة المنبعثة والأثر الطيب نحو قوى الأمة الإسلامية كلها وعلى رأسها جيوشها لأنهم أهل القوة وجهة الفعل والتكليف، وذلك بتشكيل رأي عام دافع وفاعل لدمج كل تلك القوى في معركة التحرير، ليس فقط تحرير فلسطين بل والتحرر من ربقة الاستعمار برمته، فطوبى لمن كان له في الأمر سهم.

 

إن كل ما سبق، ومثلما أنه يقتضي من المسلمين استثمار الحدث وتوجيه الدفة نحو مشروع الأمة بالنهضة والتحرير بالتركيز على قوى الأمة وتحريكها، وخصوصا من المجاهدين الأبطال لِما صار لهم من المكانة العالية والكلمة المسموعة في الأمة، فإنه كذلك يقتضي منهم الحذر، كل الحذر، من القبول بأن تتم سرقة الحدث واستغلاله ليكون لبنة في بناء مشروع أمريكا المسمى بحل الدولتين وتسوياتها وتصفياتها والتي هي على النقيض من مشروع الأمة، فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا! وحرام على الدماء الزكية والبطولات العظام والتضحيات الجسام أن تسقي غرسا خبيثا أو تصب في مشروع استعماري.

 

بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر

عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)

عن جريدة الراية