الدكتور ماهر الجعبري – عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين

 
قبل أيام استضافت لندن مؤتمرا لوضع أسس المرحلة المقبلة في أفغانستان، الذي اتفق فيه المشاركون على اقامة "صندوق الدمج"، لتمويل جذب العناصر المعتدلة من حركة طالبان ودمجهم في المجتمع والعملية السياسية. ومع مطلع كانون الأول الماضي صدرت إستراتيجية أمريكا الجديدة لأفغانستان، القائمة على حشد مزيد من القتلة بزيادة 30،000 من القوات الإضافية. وما بين الاستمالة بالمال والتهديد بالرجال، يبقى المشهد الأفغاني مشتعلا في رأس الغرب بعد أن تورط في بلد هو مقبرة الإمبراطوريات. 
 
ورغم عمق الاستراتيجيات العسكرية وتعدد الدراسات الصادرة عن خزانات التفكير الأمريكية فشلت أمريكا في أفغانستان، وذلك ببساطة لأنها أساءت التقدير عندما اعتبرت أن الموضوع هو مشكلة أمنية عسكرية، بينما تجاهلت عمق الصدام الحضاري بين مبدأ يتأهب لاستعادة مكانته العالمية وآخر يهوي على وقع الضربات الفكرية والاقتصادية المتلاحقة.
وفيما تعلو أصوات الدعوات للحوار والمفاوضات مع رجالات طالبان والحزب الإسلامي لتوقع بهم أمريكا من ثغرة ضعف الوعي السياسي على المكائد الغربية، ومن خلال تسخير الحكومات التي تخدمها في السعودية والإمارات وباكستان، لا زالت أمريكا تركّز على العمل العسكري الفاشل، كما أعلن اوباما، في إستراتيجيته الجديدة لأفغانستان.
لقد احتلت أمريكا أفغانستان بدعوى مطاردة الجهاديين، ظنّا من قادتها الذين لم يجرّبوا جهاد المسلمين ضدهم، أن الأمر لا يعدو مطاردة في عشية أو ضحاها، كتلك الأفلام التي تخرجها "هوليوود"، وإذ بها تغرق في مستنقع لم تعد تستطيع الخروج منه، لأنها تغافلت عن معنى الجهاد في الإسلام الذي لا يمكن أن يجعل الأرض تحت أقدام المحتلين إلا بركانا لا يستقر لهم فيها قرار. ومع ذلك فالمأزق الأمريكي -بل الغربي- الأكبر هو باكستان!
 
تلازم في الإستراتيجية
اليوم تتفاقم أزمة الصدام الحضاري والخطر العسكري على أمريكا والغرب عموما، بعد أن امتد المشهد إلى باكستان، هنالك حيث القوة العسكرية – التي تتميز بسابع جيش في العالم- وحيث القوة النووية التي تخشى أمريكا من انفلات أزرار تشغيلها من أيدي من تأمنهم إلى أيدي من تخشاهم.  ولذلك ظهرت توجهات في خطابات القيادات الأمريكية حول إستراتيجية "أفغانستان- باكستان"، كأزمة متلاحمة متلازمة.
إن باكستان مثّلت، ولا زالت تمثّل مفصلا حيويا لأمريكا في آسيا، حيث استندت أمريكا إلى قوة باكستان من أجل تأمين مصالحها الإستراتيجية في أفغانستان، وفي محيطها الإقليمي حيث مصادر الطاقة في آسيا الوسطى، والخصوم العريقين في الصين وروسيا.
وكانت أمريكا قد اعتمدت على رجال المخابرات الباكستانيين في تحريك رجال منطقة القبائل، ومنهم رجال وزيرستان، لمواجهة الغزو السوفيتي لأفغانستان. وبعد تورطها أمام المجاهدين، وجدت أمريكا نفسها في مواجهة صعبة مع رجال وزيرستان فأمطرتهم بالصورايخ من طائراتها التي انطلقت من مطارات باكستان، واستعانت عليهم بالمخابرات الباكستانية التي ساعدتها في تحديد أماكن المجاهدين، فيما ظلّت الحكومة الباكستانية تمدّ القوات الأمريكية بالوقود واللوجستيات.
وأمام ضعف الروح القتالية في الجيش الأمريكي في مقابل الروح الاستشهادية لدى المجاهدين، ومع تعالي أصوات حلفاء أمريكا من الأوروبيين بضرورة سحب قواتهم من أفغانستان، تجد أمريكا اليوم نفسها بأمس الحاجة للقوات الباكستانية، وخصوصا مع هذا الوضع المتأرجح.
 
شركات القتل لإيجاد رأي عام مع أمريكا
وفي ظل هشاشة هذا الموقف الأمريكي وتأرجحه، وفي أجواء الوحشية الأمريكية التي يشاهدها ملايين المسلمين، تتعاظم مشاعر البغض لأمريكا وسياساتها في باكستان، ويزداد الرفض للعمليات العسكرية الباكستانية بين الناس وفي صفوف الجيش الباكستاني، ويزداد قلق أمريكا من فقدانها للرجالات الذين زرعتهم في الجيش الباكستاني، كما صرح الميجر جنرال جون كستر، قائد مركز مخابرات الجيش في فورت هواتشوكا في أريزونا لصحيفة واشنطن تايمز، حيث قال: "إنّ القادة العسكريين القدماء يحبوننا، فهم يفهمون الثقافة الأمريكية، ويعلمون بأنّنا لسنا الأعداء، ولكنهم خارج القوات المسلحة مجددا".
 
ولذلك تعمل أمريكا على تخريب الأمن الباكستاني من أجل إيجاد رأي عام لدى المسلمين نحو ما تدعيه من "الحرب على الإرهاب"، ومن أجل أن تدفع بالجيش الباكستاني للقتال في وزيرستان، ومن ثم عملت على تقبيح صورة الجهاد والمقاومة، من خلال التفجيرات التي تنفذها شركات القتل في باكستان، في تكرار لتجربتها القميئة في العراق لخلق الفوضى. حيث سمح الرئيس الباكستاني لشركة اكس إي للخدمات (Xe) والتي كانت تُعرف بشركة بلاك وتر، من الدخول لباكستان، وتنفيذ خططها، وقد تمكنت من استخدام عناصر دخيلة على الجهاديين.
وقد أكّد أوباما هذا الخبث في 1/12/2009 في قوله "لقد كان هناك في الماضي من يجادل في باكستان بأنّ الحرب على التطرف ليست حربهم ولكن في السنين القليلة الماضية حيث امتد قتل الأبرياء من كراتشي إلى إسلام أباد فقد تغير الرأي العام". كما ونُقل عن وزير الحرب الأمريكي روبرت غيتس في 8/12/2009 قوله (لمحطة صوت أمريكا) " كلما تلقوا مزيداً من العمليات التفجيرية من مثل عملية التفجير التي حصلت في المسجد براولبندي، كلما طلبوا منا مزيداً من المساعدة".
 
هل تقع القوة الباكستانية بيد الخلافة ؟
إذاً، تعمل أمريكا على الخروج من المأزق العسكري في أفغانستان وعيونها القلقة تنظر إلى باكستان التي تمتلك مقومات الدولة القوية. وأمريكا تدرك هشاشة نظام الحكم في باكستان، بل وقابلية انهياره في المدى القريب جدا. وهي تخشى من وقوع القوة الباكستانية بأيدي المخلصين من المسلمين، وهي قلقة من احتمال نجاحهم بالأخذ بتلابيب السلطة وخلع نفوذها من جذوره، وإقامة حكم إسلامي.
ولقد أوردت صحيفة الواشنطن بوست في آذار 2009 أن ديفيد كيل كولن، مستشار قائد القيادة المركزية الأمريكية في حرب أميركا، قال: "يوجد في باكستان 173 مليون نسمة، و100 رأس نووي، وجيش أكبر من الجيش الأمريكي ... وقد وصلنا إلى مرحلة حيث يمكن رؤية انهيار النظام الباكستاني خلال ستة شهور... إنّ إطاحة المتشددين بالنظام سيدمر كل الذي نراه في الحرب على الإرهاب اليوم".
 
والخوف الحقيقي ليس لمجرد انهيار نظام الحكم، بل إنه يتمثل بكل وضوح في الخطر من انبثاق الخلافة، كما أكّدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ذلك عندما أعربت عن قلقها من العمل للخلافة في باكستان، وذلك على محطة جيو الباكستانية في 8/12/2009.
 
وتتداول دوائر صنع القرار في أمريكا هذا الخطر وتربطه بحزب التحرير بشكل واضح صارخ، حيث تناول الكاتب الأمريكي "سايمور هيرش" هذا الأمر في دراسة أعدها تحت عنوان "الدفاع عن الترسانة النووية الباكستانية، هل يمكن المحافظة على السلاح النووي؟"، وتم تعميمها على دوائر صنع القرار في أمريكا في تشرين الثاني 2009.
يقول هيرش في دراسته: "إنّ طالبان التي تطمع في السيطرة على إسلام أباد ليست الخطر الأكبر أو الوحيد، ولكن الخطر الكبير يكمن في الانقلاب الذي يمكن أن يقوم به حزب التحرير داخل الجيش الباكستاني"، ويضيف "وقد توقع سياسي رفيع المستوى في إدارة اوباما بأن يقوم حزب التحرير، الحزب السني الذي يهدف لإقامة دولة الخلافة، بالانقلاب المذكور"، ويؤكد خطورة الموقف في قوله "لقد اخترق حزب التحرير الجيش الباكستاني وبنى له خلايا داخله".
 
ماذا إذا حصل المرتقب ؟
إنها أوقات فاصلة لأمريكا في باكستان، ومن ثم في العالم. وإن هذا الوضع الملتهب في باكستان، وما هو قابل للتمخض عنه، يجب أن يدفع السياسيين الرسميين وغير الرسميين في الأمة الإسلامية إلى وقفة صادقة مع النفس، وقفة مفاصلة قبل أن لات حين مناص.  إذ من الجدير بكل صاحب لب سليم أن يحسب حساب ذلك المستقبل المرتقب: ماذا إذا حصل انهيار الدولة الباكستانية وقامت على أنقضاها خلافة عالمية بقوة نووية ؟
سؤال يجب أن يحرّك ذهن من لا زال في تيهه من أن الخلافة حلم غير قابل للتحقيق، وخصوصا وهو يتابع أن دوائر صنع القرار في أمريكا قلقة من وضع صعب قد يؤدي إلى تحقق ذلك خلال أشهر لا سنوات.
وهو سؤال يجب أن ينبّه أؤلئك الذين رهنوا أنفسهم لخدمة الخطط الأمنية الأمريكية وحراسة الاحتلال حيثما كان في بلاد المسلمين، إلى أن زمان القصاص قد أطل، فلتسبق منهم التوبة قبل أن يسبق العقاب إليهم في الدنيا قبل الآخرة. ولينحازوا إلى صفوف الأمة قبل أن تنال منهم الأمة وهم في صفوف المنكّلين بها.
وهو سؤال يجب أن ينبه من لا زال مترددا من قادة الجيوش في الالتصاق بمشروع الخلافة إلى أنه لا يستوي منهم من أيّد قبل انبثاق الخلافة كمن أيّد بعدها.
وهو سؤال يجب أن يفتح عيون العديد من وسائل الإعلام التي لا زالت عوراء فيما يتعلق بأخبار حزب التحرير والخلافة، ويجب أن يستعدوا للحظة الفاصلة التي سيلهثون فيها خلف رجالات الخلافة مع صدور البيان الأول.
أما في فلسطين على وجه الخصوص، فهو سؤال يجب أن يذكّر كل أؤلئك الذين رهنوا أنفسهم بالمشرع الأمريكي للدولة الهزيلة، وظنوا أن لا ملجأ من أمريكا إلا إليها، أن دولة الإسلام القوية قائمة لا محالة في مدى منظور، وهي التي ستزيل كيان يهود من جذوره بلا تفاوض، عندما تمرّ جيوشها من فلسطين مرورا. ولذلك فالأجدر بهم أن يتوقفوا عن اللهث خلف أمريكا التي هي غارقة في مآزقها ومتخوفة من انبثاق الخلافة حيث القوة التي لن تتمكن من مواجهتها، ومن يتعلّق بأمريكا سيهوي معها، وساعتها لن ينال إلا خزي الدنيا وخسران الآخرة.